إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
426 - الحديث الثاني : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من أعتق شقيصا من مملوك ، فعليه خلاصه كله في ماله ، فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ، ثم استسعي العبد ، غير مشقوق عليه } .


" فيه مسائل : المسألة الأولى : في تصحيحه ، وقد أخرجه الشيخان في صحيحيهما ، وحسبك بذلك فقد قالوا : إن ذلك أعلى درجات الصحيح والذين لم يقولوا بالاستسعاء : تعللوا في تضعيفه بتعليلات لا تصبر على النقد ، ولا يمكنهم الوفاء بمثلها في المواضع التي يحتاجون إلى الاستدلال فيها بأحاديث يرد عليهم فيها مثل تلك التعليلات ، فلنقتصر على هذا القدر ههنا في الاعتماد على تصحيح الشيخين ، ونترك البسط فيه إلى موضع البسط إن شاء الله .

المسألة الثانية : قوله صلى الله عليه وسلم " من مملوك " يعم الذكر والأنثى معا ، وهو أدل من لفظ " من عبد " على أن بعض الناس : ادعى أن لفظ " العبد " يتناول الذكر والأنثى ، وقد نقل " عبد وعبدة " ، وهذا إلى خلاف مراده أقرب منه إلى مراده ، على أنه قد يتعسف متعسف ولا يرى أن لفظ " المملوك " يتناول المملوكة .

المسألة الثالثة : قوله عليه السلام " فعليه خلاصه " قد يشعر بأنه لا يسري بنفس العتق ; لأنه لو عتق بنفس العتق سراية : لتخلص على هذا التقدير بنفس العتق . واللفظ يشعر باستقبال خلاصه ، إلا أن يقدر محذوف ، كما يقال : فعليه عوض خلاصه ، أو ما يقارب هذا .

المسألة الرابعة : قوله عليه السلام " فعليه خلاصه كله " هذا يراد به : الكل من حيث هو كل ، أعني الكل المجموعي ; لأن بعضه قد تخلص بالعتق السابق ، [ ص: 717 ] والذي يخلصه كله من حيث هو كل : هو تتمة عتقه .

المسألة الخامسة : قوله عليه السلام " في ماله " يستدل به على خلاف ما حكي عمن يقول : إنه يعتق من بيت المال ، وهو مروي عن ابن سيرين .

المسألة السادسة : قد يستدل به لمن يقول : إن الشريك الذي لم يعتق أولا ليس له أن يعتق بعد عتق الأول ، إذا كان الأول موسرا ; لأنه لو أعتق ونفذ ، لم يحصل الوفاء ، يكون خلاصه من ماله . لكن يرد عليه لفظ ذلك الحديث ، فإن كان من لوازم عدم صحة عتقه : أنه يسري بنفس العتق على المعتق الأول فيكون دليلا على السراية بنفس العتق ، ويبقى النظر في الترجيح بين هذه الدلالة وبين الدلالة التي قدمناها من قوله صلى الله عليه وسلم { قوم عليه قيمة عدل ، وأعطي شركاؤه حصصهم ، وعتق عليه العبد } فإن ظاهره : ترتب العتق على إعطاء القيمة ، فأي الدليلين كان أظهر عمل به .

المسألة السابعة : قوله عليه السلام " فعليه خلاصه كله من ماله " يقتضي عدم استسعاء العبد عند يسار المعتق .

المسألة الثامنة : قوله عليه السلام " فإن لم يكن له مال " ظاهره : النفي العام للمال ، وإنما يراد به مال يؤدي إلى خلاصه .

المسألة التاسعة : قوله عليه السلام " استسعي العبد " أي ألزم السعي فيما يفك به بقية رقبته من الرق ، وشرط مع ذلك : أن يكون غير مشقوق عليه ، وفي ذلك : الحوالة على الاجتهاد ، والعمل بالظن في مثل هذا ، كما ذكرناه في مقدار القيمة .

المسألة العاشرة : الذين قالوا بالاستسعاء في حالة عسر المعتق : هذا مستندهم . ويعارضه مخالفوهم بما قدمناه ، من قوله صلى الله عليه وسلم { ، وإلا فقد عتق منه ما عتق } ، والنظر بعد الحكم بصحة الحديث منحصر في تقديم إحدى الدلالتين على الأخرى ، أعني دلالة قوله " عتق منه ما عتق " على رق الباقي ، ودلالة " استسعي " على لزوم الاستسعاء في هذه الحالة ، والظاهر : ترجيح هذه الدلالة على الأولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية