إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
33 - الحديث السادس : عن عائشة رضي الله عنها قالت { كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة ، وإن بقع الماء في ثوبه ، وفي لفظ لمسلم لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا ، فيصلي فيه . }


اختلف العلماء في طهارة المني ونجاسته ، فقال الشافعي وأحمد بطهارته ، [ ص: 142 ] وقال مالك وأبو حنيفة بنجاسته ، والذين قالوا بنجاسته : اختلفوا في كيفية إزالته ، فقال مالك : يغسل رطبه ويابسه ، وقال أبو حنيفة : يغسل رطبه ، ويفرك يابسه ، أما مالك : فعمل بالقياس في الحكمين ، أعني نجاسته وإزالته بالماء ، أما نجاسته : فوجه القياس فيه من وجوه :

أحدها : أن الفضلات المستحيلة إلى الاستقذار في مقر تجتمع فيه : نجسة والمني منها ، فليكن نجسا .

وثانيها : أن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة ، والمني منها ، أي من الأحداث الموجبة للطهارة .

، وثالثها : أنه يجري في مجرى البول ، فينجس .

، وأما في كيفية إزالته : فلأن النجاسة لا تزال إلا بالماء ، إلا ما عفي عنه من آثار بعضها ، والفرد ملحق بالأعم الأغلب ، وأما أبو حنيفة : فإنه اتبع الحديث في فرك اليابس ، والقياس في غسل الرطب ولم ير الاكتفاء بالفرك دليلا على الطهارة ، وشبهه بعض أصحابه بما جاء في الحديث من دلك النعل من الأذى ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم { إذا وطئ أحدكم الأذى بخفه أو بنعله ، فطهورهما التراب } رواه الطحاوي من حديث أبي هريرة ، فإن الاكتفاء بالدلك فيه لا يدل على طهارة الأذى ، وأما الشافعي : فاتبع الحديث في فرك اليابس ، ورآه دليلا على الطهارة ، فإنه لو كان نجسا لما اكتفى فيه إلا بالغسل ، قياسا على سائر النجاسات ، فلو اكتفى بالفرك - مع كونه نجسا - لزم خلاف القياس ، والأصل : عدم ذلك ، وهذا الحديث يخالف ظاهره ما ذهب إليه مالك ، وقد اعتذر عنه بأن حمل على الفرك بالماء ، وفيه بعد ; ; لأنه ثبت في بعض الروايات في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت { لقد رأيتني ، وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري } وهذا تصريح بيبسه ، وأيضا في رواية يحيى بن سعيد عن عميرة عن عائشة قالت { كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان يابسا ، وأغسله أو أمسحه إذا كان رطبا } شك الراوي .

وهذا التقابل بين الفرك والغسل : يقتضي [ ص: 143 ] اختلافهما ، والذي قرب التأويل المذكور - عند من قال به - ما في بعض الروايات عن عائشة : أنها قالت لضيفها الذي غسل الثوب { إنما كان يجزيك - إن رأيته - أن تغسل مكانه ، وإن لم تره نضحت حوله ، فلقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم } فحصرت الإجزاء في الغسل لما رآه ، وحكمت بالنضح لما لم يره ، وهذا حكم النجاسات ، فلو كان هذا الفرك المذكور من غير ماء : ناقض آخر الحديث أوله ، الذي يقتضي حصر الإجزاء في الغسل ، ويقتضي إجراء حكم سائر النجاسات عليه في النضح ، إلا أن دلالة قولها " لأحكه يابسا بظفري " أصرح وأنص على عدم الماء مما ذكر من القرائن ، من كونه مفروكا بالماء ، والحديث واحد ، اختلفت طرقه ، وأعني بالقرائن : النضح لما لم يره ، وقولها : " إنما كان يجزيك " ، ومن الناس من سلك طريقة أخرى في الأحاديث التي اقتصر فيها على ذكر الفرك ، قال : هذا لا يدل إلا على الفرك من الثوب ، وليس فيه دلالة على أنه الثوب الذي يصلي فيه ، فيحمل على ثوب النوم ، ويحمل الحديث الآخر الذي ذكره المصنف - وهو قولها " فيخرج إلى الصلاة ، وإن بقع الماء في ثوبه " - على ثوب الصلاة ، ولا يقال : إذا حملتم الفرك على غير ثوب الصلاة ، فأي فائدة في ذكر ذلك ؟ ; لأنا نقول : فائدته بيان جواز لبس الثوب النجس في غير حالة الصلاة .

وهذه الطريقة قد تتمشى لو لم تأت روايات صحيحة بقولها " ثم يصلي فيه " وفي بعضها " فيصلي فيه " وأخذ بعضهم من كون الفاء للتعقيب : أنه يعقب الصلاة بالفرك ، ويقتضي ذلك عدم الغسل قبل الدخول في الصلاة ، إلا أنه قد ورد بالواو ، وبثم أيضا في هذا الحديث ، فإن كان الحديث واحدا فالألفاظ مختلفة ، والمقول منها واحد ، فتقف الدلالة بالفاء إلا لمرجح لها ، وإن كانت الرواية بالفاء حديثا مفردا ، فيتجه ما قاله ، واعلم أن احتمال غسله بعد الفرك واقع ، لكن الأصل عدمه ، فيتعارض [ ص: 144 ] النظر بين اتباع هذا الأصل وبين اتباع القياس ، ومخالفة هذا الأصل ، فما ترجح منهما عمل به ، لا سيما إن انضمت قرائن في لفظ الحديث تنفي هذا الاحتمال ، فإذ ذاك يتقوى العمل به ، وينظر إلى الراجح بعد تلك القرائن ، أو من القياس ، وقد استعمل في هذا الحديث لفظ " الجنابة " بإزاء " المني " وقد ذكرنا أنه يستعمل بإزاء المنع ، والحكم الشرعي المرتب على خروج الخارج ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية