إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
37 - الحديث الثاني : عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال : { بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة ، فأجنبت ، فلم أجد الماء ، فتمرغت في الصعيد ، كما تمرغ الدابة ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا - ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ، ثم مسح الشمال على اليمين ، وظاهر كفيه ووجهه . }


" عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة أبو اليقظان العنسي - بنون بعد المهملة - أحد السابقين من المهاجرين . وممن عذب في ذات الله تعالى ، قتل - بلا خلاف - بصفين مع علي رضي الله عنهما ، سنة سبع وثلاثين ، والكلام على هذا الحديث من وجوه :

[ ص: 149 ] أحدها : يقال " أجنب " الرجل ، وجنب بالضم ، وجنب بالفتح ، وقد مر .

الثاني : قوله " فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة " كأنه استعمال لقياس لا بد فيه من تقدم العلم بمشروعية التيمم ، وكأنه لما رأى أن الوضوء خاص ببعض الأعضاء وكان بدله - وهو التيمم - خاصا ، وجب أن يكون بدل الغسل الذي يعم جميع البدن عاما لجميع البدن قال أبو محمد بن حزم الظاهري : في هذا الحديث إبطال القياس ; لأن عمارا قدر أن المسكوت عنه من التيمم للجنابة : حكمه حكم الغسل للجنابة ، إذ هو بدل منه ، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، وأعلمه أن لكل شيء حكمه المنصوص عليه فقط . والجواب عما قال : أن الحديث دل على بطلان هذا القياس الخاص ، ولا يلزم من بطلان الخاص بطلان العام . والقائسون لا يعتقدون صحة كل قياس ، ثم في هذا القياس شيء آخر ، وهو أن الأصل - الذي هو الوضوء - قد ألغي فيه مساواة البدل له . فإن التيمم لا يعم جميع أعضاء الوضوء ، فصار مساواة البدل للأصل ملغى في محل النص ، وذلك لا يقتضي المساواة في الفرع . بل لقائل أن يقول : قد يكون الحديث دليلا على صحة أصل القياس ، فإن قوله صلى الله عليه وسلم " إنما كان يكفي كذا وكذا " يدل على أنه لو كان فعله لكفاه . وذلك دليل على صحة قولنا : لو كان فعله لكان مصيبا ، ولو كان فعله لكان قائسا للتيمم للجنابة على التيمم للوضوء ، على تقدير أن يكون " اللمس " المذكور في الآية ليس هو الجماع ; لأنه لو كان عند عمار هو الجماع : لكان حكم التيمم مبينا في الآية . فلم يكن يحتاج إلى أن يتمرغ ، فإذن ، فعله ذلك يتضمن اعتقاد كونه ليس عاملا بالنص ، بل بالقياس . وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان يكفيه التيمم على الصورة المذكورة ، مع ما بينا من كونه : لو فعل ذلك لفعله بالقياس عنده ، لا بالنص .

الثالث : في قوله " أن تقول بيديك هكذا " استعمال القول في معنى الفعل ، وقد قالوا : إن العرب استعملت القول في كل فعل .

[ ص: 150 ] الرابع : قوله " ثم ضرب الأرض بيديه ضربة واحدة " دليل لمن قال بالاكتفاء بضربة واحدة للوجه واليدين ، وإليه يرجع حقيقة مذهب مالك ، فإنه قال : يعيد في الوقت إذا فعل ذلك ، والإعادة في الوقت دليل على إجزاء الفعل إذا وقع ظاهرا ، ومذهب الشافعي : أنه لا بد من ضربتين : ضربة للوجه ، وضربة لليدين ، لحديث ورد فيه " التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين " إلا أنه لا يقاوم هذا الحديث في الصحة ، ولا يعارض مثله بمثله .

الخامس : قوله " ثم مسح الشمال على اليمين ، وظاهر كفيه ووجهه " قدم في اللفظ " مسح اليدين " على " مسح الوجه " لكن بحرف الواو ، وهي لا تقتضي الترتيب ، هذا في هذه الرواية ، وفي غيرها " ثم مسح بوجهه " بلفظة " ثم " وهي تقتضي الترتيب ، فاستدل بذلك على أن ترتيب اليدين على الوجه في الوضوء ليس بواجب ; لأنه إذا ثبت ذلك في التيمم ، ثبت في الوضوء ، إذ لا قائل بالفرق .

السادس : قوله " وظاهر الكفين " يقتضي الاكتفاء بمسح الكفين في التيمم ، وهو مذهب أحمد ، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة : أن التيمم إلى المرفقين وفي حديث أبي الجهيم { أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم على الجدار ، فمسح بوجهه ويديه . } فتنازعوا في أن مطلق لفظ " اليد " هل يدل على الكفين ، أو على الذراعين ، أو على جملة العضو إلى الإبط ؟ فادعى قوم : أنه يحمل على " الكفين " عند الإطلاق ، كما في قوله عز وجل : { فاقطعوا أيديهما } وقد ورد في بعض روايات حديث أبي الجهيم " أنه صلى الله عليه وسلم مسح وجهه وذراعيه " والذي في الصحيح " ويديه " .

التالي السابق


الخدمات العلمية