إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
4 - الحديث الرابع : عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ، ثم لينتثر ، ومن استجمر فليوتر ، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده } . وفي لفظ لمسلم { فليستنشق بمنخريه من الماء } وفي لفظ { من توضأ فليستنشق } .


فيه مسائل : الأولى : في هذه الرواية : " فليجعل في أنفه " ولم يقل " ماء " وهو مبين في غيرها وتركه لدلالة الكلام عليه .

الثانية : تمسك به من يرى وجوب الاستنشاق ، وهو مذهب أحمد ، ومذهب الشافعي ومالك : عدم الوجوب .

وحملا الأمر على الندب ، بدلالة ما جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي { توضأ كما أمرك الله } فأحاله على الآية .

وليس فيها ذكر الاستنشاق .

الثالثة : المعروف أن " الاستنشاق " جذب الماء إلى الأنف . [ ص: 70 ] و " الاستنثار " دفعه للخروج . ومن الناس من جعل الاستنثار لفظا يدل على الاستنشاق الذي هو الجذب وأخذه من النثرة ، وهي طرف الأنف . والاستفعال منها يدخل تحته الجذب والدفع معا .

والصحيح : هو الأول .

; لأنه قد جمع بينهما في حديث واحد وذلك يقتضي التغاير .

الرابعة : قوله صلى الله عليه وسلم { ومن استجمر فليوتر } الظاهر : أن المراد به : استعمال الأحجار في الاستطابة وإيتار فيها بالثلاث واجب عند الشافعي .

فإن الواجب عنده رحمه الله في الاستجمار أمران .

أحدهما : إزالة العين .

والثاني : استيفاء ثلاث مسحات .

وظاهر الأمر الوجوب .

لكن هذا الحديث لا يدل على الإيتار بالثلاث .

فيؤخذ من حديث آخر .

وقد حمل بعض الناس الاستجمار على استعمال البخور للتطيب .

فإنه يقال فيه : تجمر واستجمر .

فيكون الأمر للندب على هذا .

والظاهر : هو الأول ، أعني أن المراد : هو استعمال الأحجار .

الخامسة : ذهب بعضهم إلى وجوب غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء في ابتداء الوضوء ، عند الاستيقاظ من النوم ، لظاهر الأمر .

ولا يفرق هؤلاء بين نوم الليل ونوم النهار ، لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم { إذا استيقظ من نومه } وذهب أحمد إلى وجوب ذلك من نوم الليل ، دون نوم النهار .

لقوله صلى الله عليه وسلم { أين باتت يده ؟ } والمبيت يكون بالليل . وذهب غيرهم إلى عدم الوجوب مطلقا .

وهو مذهب مالك والشافعي .

والأمر محمول على الندب .

واستدل على ذلك بوجهين .

أحدهما : ما ذكرناه من حديث الأعرابي . [ ص: 71 ]

والثاني : أن الأمر - وإن كان ظاهره الوجوب - إلا أنه يصرف عن الظاهر لقرينة ودليل ، وقد دل الدليل ، وقامت القرينة ههنا .

فإنه صلى الله عليه وسلم علل بأمر يقتضي الشك .

وهو قوله { فإنه لا يدري أين باتت يده ؟ } والقواعد تقتضي أن الشك لا يقتضي وجوبا في الحكم ، إذا كان الأصل المستصحب على خلافه موجودا .

والأصل : الطهارة في اليد ، فلتستصحب [ وفيه احتراز عن مسألة الصيد ] .

السادسة ، قيل : إن سبب هذا الأمر : أنهم كانوا يستنجون بالأحجار ، فربما وقعت اليد على المحل وهو عرق ، فتنجست .

فإذا وضعت في الماء نجسته ; لأن الماء المذكور في الحديث : هو ما يكون في الأواني التي يتوضأ منها .

والغالب عليها القلة .

وقيل : إن الإنسان لا يخلو من حك بثرة في جسمه ، أو مصادفة حيوان ذي دم فيقتله ، فيتعلق دمه بيده .

السابعة : الذين ذهبوا إلى أن الأمر للاستحباب : استحبوا غسل اليد قبل إدخالها في الإناء في ابتداء الوضوء مطلقا ، سواء قام من النوم أم لا .

ولهم فيه مأخذان .

أحدهما : أن ذلك : وارد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من غير تعرض لسبق نوم .

والثاني : أن المعنى الذي علل به في الحديث - وهو جولان اليد موجود في حال اليقظة .

فيعم الحكم لعموم علته .

الثامنة : فرق أصحاب الشافعي ، أو من فرق منهم ، بين حال المستيقظ من النوم وغير المستيقظ .

فقالوا في المستيقظ من النوم : يكره أن يغمس يده في الإناء ، قبل غسلها ثلاثا .

وفي غير المستيقظ من النوم : يستحب له غسلها ، قبل إدخالها في الإناء .

وليعلم الفرق بين قولنا " يستحب فعل كذا " وبين قولنا " يكره تركه " فلا تلازم بينهما .

فقد يكون الشيء مستحب الفعل ، ولا يكون مكروه الترك ، كصلاة [ ص: 72 ] الضحى مثلا ، وكثير من النوافل .

فغسلها لغير المستيقظ من النوم ، قبل إدخالها الإناء : من المستحبات .

وترك غسلها للمستيقظ من النوم : من المكروهات .

وقد وردت صيغة النهي عن إدخالها في الإناء قبل الغسل في حق المستيقظ من النوم .

وذلك يقتضي الكراهة على أقل الدرجات .

وهذه التفرقة هي الأظهر .

التاسعة : استنبط من هذا الحديث : الفرق بين ورود الماء على النجاسة ، وورود النجاسة على الماء .

ووجه ذلك : أنه قد نهى عن إدخالها في الإناء قبل غسلها ، لاحتمال النجاسة .

وذلك يقتضي : أن ورود النجاسة على الماء مؤثر فيه . وأمر بغسلها بإفراغ الماء عليها للتطهير .

وذلك يقتضي : أن ملاقاتها للماء على هذا الوجه غير مفسد له بمجرد الملاقاة ، وإلا لما حصل المقصود من التطهير .

العاشرة : استنبط منه : أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه .

فإنه منع من إدخال اليد فيه ، لاحتمال النجاسة ، وذلك دليل على أن تيقنها مؤثر فيه ، وإلا لما اقتضى احتمال النجاسة المنع .

وفيه نظر عندي .

; لأن مقتضى الحديث : أن ورود النجاسة على الماء مؤثر فيه ، ومطلق التأثير أعم من التأثير بالتنجيس .

ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص المعين . فإذا سلم الخصم أن الماء القليل بوقوع النجاسة فيه يكون مكروها ، فقد ثبت مطلق التأثير .

فلا يلزم منه ثبوت خصوص التأثير بالتنجيس .

وقد يورد عليه : أن الكراهة ثابتة عند التوهم .

فلا يكون أثر اليقين هو الكراهة .

ويجاب عنه : بأنه ثبت عند اليقين زيادة في رتبة الكراهة .

والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية