إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
39 - الحديث الأول : عن عائشة رضي الله عنها { أن فاطمة بنت أبي حبيش : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ قال : لا إن ذلك عرق ، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ، ثم اغتسلي وصلي } ، وفي رواية " وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة : فاتركي الصلاة فيها ، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي " .


الكلام على هذا الحديث عليه من وجوه :

أحدها : يقال : حاضت المرأة ، وتحيضت ، تحيض حيضا ، ومحاضا ومحيضا - إذا سال الدم منها في نوبة معلومة ، وإذا استمر من غير نوبة قيل : [ ص: 157 ] استحيضت فهي مستحاضة ، ونقل الهروي عن ابن عرفة أنه قال : المحيض ، والحيض : اجتماع الدم إلى ذلك المكان ، ومنه سمي الحوض حوضا ، لاجتماع الماء فيه . قال الفارسي في مجمعه - بعد ما نقل ما ذكرناه - وهذا زلل ظاهر ; لأن الحوض من ذوات الواو ، يقال : حضت أحوض ، أي اتخذت حوضا ، واستحوض الماء : إذا اجتمع وسميت الحائض حائضا عند سيلان الدم منها ، لا عند اجتماع الدم في رحمها ، وكذلك المستحاضة تسمى بذلك عند استمرار السيلان بها ، فإذا أخذ الحيض من الحوض خطأ ، لفظا ومعنى ، فلست أدري كيف وقع ؟ وما ذكره من جهة المعنى : فليس بالقاطع ; لأن تلك الحالة ليس يمتنع أن يطلق عليها لفظ الاجتماع ، لا سيما في بعض الأحوال .

، الثاني " أبو حبيش " بضم الحاء المهملة بعدها باء ثانية الحروف مفتوحة ، ثم ياء آخر الحروف ساكنة ثم شين معجمة ، وهو أبو حبيش المطلب بن أسد بن عبد العزى ، ووقع في أكثر نسخ صحيح مسلم ، عبد المطلب ، وذلك غلط عندهم والصواب " المطلب " كما ذكرنا .

الثالث : قولها " أستحاض " قد تقدم معنى الاستحاضة فيقال منه : استحيضت المرأة ، مبنيا للمفعول ، ولم يبن هذا الفعل للفاعل ، كما في قولهم " نفست المرأة " و " نتجت الناقة " وأصل الكلمة : من الحيض ، والزوائد التي لحقتها للمبالغة ، كما يقال : قر في المكان ، ثم يزاد للمبالغة ، فيقال : استقر ويقال : أعشب المكان ، ثم يبالغ فيه ، فيقال : اعشوشب . وكثيرا ما تجيء الزوائد لهذا المعنى .

الرابع : " الطهارة " تطلق بإزاء النظافة ، وهو الوضع اللغوي ، وتطلق بإزاء استعمال المطهر ، فيقال : الوضوء طهارة صغرى ، والغسل طهارة كبرى . وتطلق ويراد بها : الحكم الشرعي المرتب على استعمال المطهر . فيقال لمن ارتفع عنه مانع الحدث : هو على طهارة ، ولمن لم يرتفع عنه المانع : هو على غير طهارة ، [ ص: 158 ] فإذا ثبت هذا ، فنقول : قولها " فلا أطهر " يحمل على الوضع اللغوي ، وكنت باللفظة عن عدم النظافة الدم ; لأن النساء لم يكن يستعملن المطهر في ذلك الوقت ، ولا هي أيضا عالمة بالحكم الشرعي ، فإنها جاءت تسأل عنه . فتعين حمله على الوضع اللغوي ، ثم حقيقته : استمرار الدم ، وعليه حمله بعضهم ، ويمكن حمله على المبالغة ومجاز كلام العرب ، لكثرة تواليه ، وقرب بعضه من بعض .

الخامس : قولها " أفأدع الصلاة ؟ " سؤال عن استمرار حكم الحيض في حالة دوام الدم وإزالته ، وهو كلام من تقرر عنده : أن الحائض ممنوعة من الصلاة .

السادس : قوله صلى الله عليه وسلم " لا ، إنما ذلك عرق " فيه دليل على أن الصلاة لا يتركها من غلبه الدم من جرح ، أو انبثاق عرق ، كما فعل عمر رضي الله عنه حيث صلى وجرحه يثعب دما ، وقوله صلى الله عليه وسلم " إنما ذلك عرق " ظاهره : انبثاق الدم من عرق ، وقد جاء في الحديث " عرق انفجر " ويحتمل أن يكون من مجاز التشبيه ، إن كان سبب الاستحاضة كثرة مادة الدم وخروجه من مجاري الحيض المعتادة .

السابع : في الحديث دليل على أن الحائض تترك الصلاة من غير قضاء وهو كالإجماع من الخلف والسلف في تركها ، وعدم وجوب القضاء ، ولم يخالف في عدم وجوب القضاء إلا الخوارج . نعم استحب بعض السلف للحائض إذا دخل وقت الصلاة : أن تتوضأ وتستقبل القبلة . وتذكر الله عز وجل وأنكره بعضهم .

الثامن : قوله صلى الله عليه وسلم " قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها " رد إلى أيام العادة ، والمستحاضة : إما مبتدأة ، أو معتادة ، وكل منهما : إما مميزة ، أو غير مميزة ، فهذه أربعة ، والحديث قد دل بلفظه على أن هذه المرأة كانت معتادة . لقوله صلى الله عليه وسلم " دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها " وهذا يقتضي أنها كانت لها أيام تحيض فيها . وليس في هذا اللفظ الذي في هذه الرواية ما يدل على أنها كانت مميزة أو غير مميزة ، فإن ثبت في هذا الحديث رواية أخرى تدل على التمييز - ليس لها معارض - فذاك . وإن لم يثبت فقد يستدل بهذه الرواية من يرى الرد إلى أيام [ ص: 159 ] العادة ، سواء كانت مميزة أو غير مميزة ، وهو اختيار أبي حنيفة ، وأحد قولي الشافعي ، والتمسك به ينبني على قاعدة أصولية ، وهي ما يقال " إن ترك الاستفصال في قضايا الأحوال ، مع قيام الاحتمال ، ينزل منزلة عموم المقال " ومثلوه بقوله صلى الله عليه وسلم فيما روي لفيروز - وقد أسلم على أختين - " اختر أيتهما شئت " ولم يستفصله : هل وقع العقد عليهما مرتبا ، أو متقارنا ؟ وكذا نقول ههنا : لما سألت هذه المرأة عن حكمها في الاستحاضة ، ولم يستفصلها رسول الله عن كونها مميزة أو غير مميزة : كان ذلك دليلا على أن هذا الحكم عام في المميزة وغيرها ، كما قالوا في حديث فيروز الذي اعترض به ، ثم يرد ههنا أيضا ، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون عالما حال الواقعة كيف وقعت ، فأجاب على ما علم ، وكذا يقال هنا : يجوز أن يكون علم حال الواقعة في التمييز أو عدمه ، وقوله في رواية { وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي } اختار بعضهم في قوله " وليس بالحضة " كسر الحاء ، أي الحالة المألوفة المعتادة . والحيضة - بالفتح - المرة من الحيض .

، وقوله " فإذا أقبلت " تعليق الحكم بالإقبال والإدبار ، فلا بد أن يكون معلوما لها بعلامة تعرفها ، فإن كانت مميزة وردت إلى التمييز ، فإقبالها : بدء الدم الأسود ، وإدبارها : إدبار ما هو بصفة الحيض ، وإن كانت معتادة ، وردت إلى العادة ، فإقبالها : وجود الدم في أول أيام العادة . وإدبارها : انقضاء أيام العادة .

، وقد ورد في حديث فاطمة بنت أبي حبيش - هذه - ما يقتضي الرد إلى التمييز ، وقالوا : إن حديثها في المميزة ، وحمل قوله " فإذا أقبلت الحيضة " على الحيضة المألوفة التي هي بصفة الدم المعتاد ، وأقوى الروايات في الرد إلى التمييز : الرواية التي فيها " دم الحيض أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن [ ص: 160 ] الصلاة " وأما الرد إلى العادة : فقد ذكرناها في الرواية الأولى التي ذكرها المصنف وقد يشير إليه في هذه الرواية قوله صلى الله عليه وسلم " فإذا ذهب قدرها " فالأشبه أنه يريد قدر أيامها .

وصحف بعض الطلبة هذه اللفظة فقال " فإذا ذهب قذرها " بالذال المعجمة المفتوحة ، وإنما هو بالمهملة الساكنة ، أي قدر وقتها ، والله أعلم .

وقوله " فاغسلي عنك الدم وصلي " مشكل في ظاهره ; لأنه لم يذكر الغسل ولا بد بعد انقضاء الحيض من الغسل ، وحمل بعضهم هذا الإشكال على أن جعل الإدبار : انقضاء أيام الحيض ، والاغتسال ، وجعل قوله " فاغسلي عنك الدم " محمولا على دم يأتي بعد الغسل ، والجواب الصحيح : أن هذه الرواية - وإن لم يذكر فيها الغسل - فقد ذكر في رواية أخرى صحيحة ، فقال فيها " واغتسلي " .

، وفي الحديث دليل على نجاسة دم الحيض .

التالي السابق


الخدمات العلمية