إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
[ ص: 164 ] الحديث الأول : عن أبي عمرو الشيباني واسمه سعد بن إياس - قال : حدثني صاحب هذه الدار - وأشار بيده إلى دار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه - قال { سألت النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : الصلاة على وقتها . قلت : ثم أي ؟ قال : بر الوالدين ، قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ، قال : حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني } .


عبد الله بن مسعود بن الحارث بن شمخ هذلي يكنى أبا عبد الرحمن . شهد بدرا . يعرف بابن أم عبد . توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين . وصلى عليه الزبير . ودفن بالبقيع . وكان له يوم مات نيف وسبعون سنة ، من أكابر الصحابة وفقهائهم .

قوله " حدثني صاحب هذه الدار " دليل على أن الإشارة يكتفى بها عن التصريح بالاسم ، وتنزل منزلته إذا كانت معينة للمشار إليه ، مميزة عن غيره . وسؤاله عن أفضل الأعمال : طلبا لمعرفة ما ينبغي تقديمه منها ، وحرصا [ ص: 165 ] على علم الأصل ، ليتأكد القصد إليه ، وتشتد المحافظة عليه .

و " الأعمال " هاهنا لعلها محمولة على الأعمال البدنية ، كما قال الفقهاء : أفضل عبادات البدن الصلاة . واحترزوا بذلك عن عبادة المال . وقد تقدم لنا كلام في العمل : هل يتناول عمل القلب ، أم لا ؟ فإذا جعلناه مخصوصا بأعمال البدن ، تبين من هذا الحديث : أنه لم يرد أعمال القلوب . فإن من عملها ما هو أفضل ، كالإيمان . وقد ورد في بعض الحديث ذكره مصرحا به أعني الإيمان - فتبين بذلك الحديث : أنه أريد بالأعمال ما يدخل فيه أعمال القلوب ، وأريد بها في هذا الحديث : ما يختص بعمل الجوارح . وقوله " الصلاة على وقتها " ليس فيه ما يقتضي أول الوقت وآخره . وكان المقصود به : الاحتراز عما إذا وقعت خارج الوقت قضاء . وأنها لا تتنزل هذه المنزلة وقد ورد في حديث آخر " الصلاة لوقتها " وهو أقرب لأن يستدل به على تقديم الصلاة في أول الوقت من هذا اللفظ وقد اختلفت الأحاديث في فضائل الأعمال ، وتقديم بعضها على بعض . والذي قيل في هذا : إنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص ، أو من هو في مثل حاله . أو هي مخصوصة ببعض الأحوال التي ترشد القرائن إلى أنها المراد . ومثال ذلك : أن يحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم - من قوله { ألا أخبركم بأفضل أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ؟ } وفسره بذكر الله تعالى - على أن يكون ذلك أفضل الأعمال بالنسبة إلى المخاطبين بذلك ، أو من هو في مثل حالهم ، أو من هو في صفاتهم . ولو خوطب بذلك الشجاع الباسل المتأهل للنفع الأكبر في القتال لقيل له " الجهاد " ولو خوطب به من لا يقوم مقامه في القتال ولا يتمحض حاله لصلاحية التبتل لذكر الله تعالى ، وكان غنيا ينتفع بصدقة ماله لقيل له " الصدقة " وهكذا في بقية أحوال الناس ، قد يكون الأفضل في حق هذا مخالفا للأفضل في حق ذاك ، بحسب ترجيح المصلحة التي تليق به .

وأما " بر الوالدين " فقد قدم في هذا الحديث على الجهاد . وهو دليل على [ ص: 166 ] تعظيمه . ولا شك في أن أذاهما بغير ما يجب ممنوع منه . وأما ما يجب من البر في غير هذا : ففي ضبطه إشكال كبير .

وأما " الجهاد في سبيل الله تعالى " فمرتبته في الدين عظيمة . والقياس يقتضي أنه أفضل من سائر الأعمال التي هي وسائل . فإن العبادات على قسمين . منها ما هو مقصود لنفسه . ومنها ما هو وسيلة إلى غيره .

وفضيلة الوسيلة بحسب فضيلة المتوسل إليه . فحيث تعظم فضيلة المتوسل إليه تعظم فضيلة الوسيلة . ولما كان الجهاد في سبيل الله وسيلة إلى إعلان الإيمان ونشره ، وإخمال الكفر ودحضه كانت فضيلة الجهاد بحسب فضيلة ذلك . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية