إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
46 - الحديث الثالث : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ، والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت ، والعشاء أحيانا وأحيانا إذا رآهم اجتمعوا عجل . وإذا رآهم أبطئوا أخر ، والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس } .


الهاجرة : هي شدة الحر بعد الزوال . الحديث يدل على الفضيلة في أوقات هذه الصلوات . فأما الظهر : فقوله " يصلي الظهر بالهاجرة " يدل على تقديمها في أول الوقت ، فإنه قد قيل في الهاجرة والهجير : إنهما شدة الحر وقوته . ويعارضه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر { إذا اشتد الحر فأبردوا } ويمكن الجمع بينهما بأن يكون أطلق اسم [ ص: 168 ] الهاجرة " على الوقت الذي بعد الزوال مطلقا . فإنه قد تكون فيه الهاجرة في وقت ، فيطلق على الوقت مطلقا بطريق الملازمة ، وإن لم يكن وقت الصلاة في حر شديد . وفيه بعد . وقد يقرب بما نقل عن صاحب العين : أن الهجير والهاجرة نصف النهار . فإذا أخذ بظاهر هذا الكلام : كان مطلقا على الوقت .

وفيه وجه آخر : وهو أن الفقهاء اختلفوا في أن الإبراد رخصة أو سنة ولأصحاب الشافعي وجهان في ذلك . فإن قلنا : إنه رخصة ، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم " أبردوا " أمر إباحة ، ويكون تعجيله لها في الهاجرة أخذا بالأشق والأولى . أو يقول من يرى أن الإبراد سنة : إن التهجير لبيان الجواز . وفي هذا بعد ; لأن قوله " كان " يشعر بالكثرة والملازمة عرفا .

وقوله والعصر والشمس نقية يدل على تعجيلها أيضا ، خلافا لمن قال : إن أول وقتها ما بعد القامتين . وقوله " والمغرب إذا وجبت أي الشمس " . الوجوب : السقوط . ويستدل به على أن سقوط قرصها يدخل به الوقت . والأماكن تختلف ، فما كان منها فيه حائل بين الرائي وبين قرص الشمس ، لم يكتف بغيبوبة القرص عن الأعين ويستدل على غروبها بطلوع الليل من المشرق . قال : صلى الله عليه وسلم { إذا غربت الشمس من هاهنا ، وطلع الليل من هاهنا . فقد أفطر الصائم } أو كما قال . فإن لم يكن ثم حائل فقد قال بعض أصحاب مالك : إن الوقت يدخل بغيبوبة الشمس وإشعاعها المستولي عليها . وقد استمر العمل بصلاة المغرب عقيب الغروب . وأخذ منه : أن وقتها واحد والصحيح عندي : أن الوقت مستمر إلى غيبوبة الشفق .

وأما العشاء : فاختلف الفقهاء فيها . فقال قوم : تقديمها أفضل . وهو ظاهر مذهب الشافعي . وقال قوم : تأخيرها أفضل ، لأحاديث سترد في الكتاب . وقال قوم : إن اجتمعت الجماعة فالتقديم أفضل . وإن تأخرت فالتأخير أفضل . وهو قول عند المالكية . ومستندهم هذا الحديث . وقال قوم : إنه يختلف باختلاف الأوقات . ففي الشتاء وفي رمضان : تؤخر . وفي غيرهما : تقدم . وإنما أخرت في الشتاء لطول الليل ، وكراهة الحديث بعدها . .

[ ص: 169 ] وهذا الحديث يتعلق بمسألة تكلفوا فيها . وهو أن صلاة الجماعة أفضل من الصلاة في أول الوقت ، أو بالعكس ؟ حتى إنه إذا تعارض في حق شخص أمران :

أحدهما : أن يقدم الصلاة في أول الوقت منفردا ، أو يؤخر الصلاة في الجماعة أيها أفضل ؟ والأقرب عندي : أن التأخير لصلاة الجماعة أفضل . وهذا الحديث يدل عليه ، لقوله " وإذا أبطئوا أخر " فأخر لأجل الجماعة مع إمكان التقديم ; ولأن التشديد في ترك الجماعة ، والترغيب في فعلها : موجود في الأحاديث الصحيحة وفضيلة الصلاة في أول الوقت وردت على جهة الترغيب في الفضيلة ، وأما جانب التشديد في التأخير عن أول الوقت : فلم يرد كما في صلاة الجماعة . وهذا دليل على الرجحان لصلاة الجماعة . نعم إذا صح لفظ يدل دلالة ظاهرة على أن الصلاة في أول وقتها أفضل الأعمال كان متمسكا لمن يرى على خلاف هذا المذهب . وقد قدمنا في الحديث الماضي : أنه ليس فيه دليل على الصلاة في أول الوقت فإن قوله " على وقتها " لا يشعر بذلك . والحديث الذي فيه " الصلاة لوقتها " ليس فيه دلالة قوية الظهور في أول الوقت . .

وقد تقدم تفسير " الغلس " وأن الحديث دليل على أن التغليس بالصبح أفضل . والحديث المعارض له - وهو قوله { أسفروا بالفجر . فإنه أعظم للأجر } - قيل فيه : إن المراد بالإسفار : تبين طلوع الفجر ووضوحه للرائي يقينا . وفي هذا التأويل نظر . فإنه قبل التبيين والتيقن في حالة الشك لا تجوز الصلاة . فلا أجر فيها . والحديث يقتضي بلفظة " أفعل " فيه : أن ثم أجرين أحدهما أكمل من الآخر . فإن صيغة " أفعل " تقتضي المشاركة في الأصل ، مع الرجحان لأحد الطرفين حقيقة . وقد ترد من غير اشتراك في الأصل قليلا على وجه المجاز . فيمكن أن يحمل عليه ويرجح ، وإن كان تأويلا بالعمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء . .

التالي السابق


الخدمات العلمية