إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
47 - الحديث الرابع : عن أبي المنهال سيار بن سلامة قال { دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي ، فقال له أبي : كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة ؟ فقال : كان يصلي الهجير - التي تدعونها [ ص: 170 ] الأولى - حين تدحض الشمس ، ويصلي العصر ، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية . ونسيت ما قال في المغرب . وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة . وكان يكره النوم قبلها ، والحديث بعدها . وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه . وكان يقرأ بالستين إلى المائة } .


" أبو برزة الأسلمي " اختلف في اسمه واسم أبيه . والأشهر الأصح : نضلة بن عبيد أو نضلة بن عبد الله . ويقال : نضلة بن عائذ - بالذال المعجمة - مات سنة أربع وستين . وقيل : مات بعد ولاية ابن زياد ، قبل موت معاوية ، سنة ستين وكانت وفاته بالبصرة . وقد تقدم أن لفظة " كان " تشعر عرفا بالدوام والتكرار ، كما يقال : كان فلان يكرم الضيوف . وكان فلان يقاتل العدو ، إذا كان ذلك دأبه وعادته . والألف واللام في " المكتوبة " للاستغراق . ولهذا أجاب بذكر الصلوات كلها ; لأنه فهم من السائل العموم . وقوله " كان يصلي الهجير " فيه حذف مضاف ، تقديره : كان يصلي صلاة الهجير . وقد قدمنا قبل أن " الهجير والهاجرة " شدة الحر وقوته . وإنما قيل لصلاة الظهر " الأولى " ; لأنها أول صلاة أقامها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء في حديث إمامة جبريل عليه السلام . وقوله " حين تدحض الشمس " بفتح التاء والحاء . والمراد به هاهنا : زوالها . واللفظة من حيث الوضع أعم من هذا . وظاهر اللفظ يقتضي وقوع صلاته صلى الله عليه وسلم الظهر عند الزوال . ولا بد من تأويله . وقد اختلف أصحاب الشافعي فيما تحصل به فضيلة أول الوقت : فقال بعضهم : إنما تحصل بأن يقع أول الصلاة مع أول الوقت ، بحيث تكون شروط الصلاة متقدمة على دخول الوقت . وتكون الصلاة واقعة في أوله . وقد يتمسك هذا [ ص: 171 ] القائل بظاهر هذا الحديث . فإنه قال " يصلي حين تزول " فظاهره : وقوع أول الصلاة في أول جزء من الوقت عند الزوال ; لأن قوله " يصلي " يجب حمله على " يبتدئ الصلاة " فإنه لا يمكن إيقاع جميع الصلاة حين تدحض الشمس .

ومنهم من قال : تمد فضيلة أول الوقت إلى نصف وقت الاختيار . فإن النصف السابق من الشيء ينطلق عليه أول الوقت بالنسبة إلى المتأخر ومنهم من قال - وهو الأعدل - إنه إذا اشتغل بأسباب الصلاة عقيب دخول أول الوقت ، وسعى إلى المسجد ، وانتظر الجماعة - وبالجملة : لم يشتغل بعد دخول الوقت إلا بما يتعلق بالصلاة - فهو مدرك لفضيلة أول الوقت . ويشهد لهذا : فعل السلف والخلف .

ولم ينقل عن أحد منهم أنه كان يشدد في هذا ، حتى يوقع أول تكبيرة في أول جزء من الوقت . وقوله " والشمس حية " مجاز عن بقاء بياضها ، وعدم مخالطة الصفرة لها . وفيه دليل على ما قدمناه من الحديث السابق من تقديمها . وقوله " وكان يستحب أن يؤخر من العشاء " يدل على استحباب التأخير قليلا لما تدل عليه لفظة " من " من التبعيض الذي حقيقته راجعة إلى الوقت ، أو الفعل المتعلق بالوقت . وقوله " التي تدعونها : العتمة " اختيار لتسميتها بالعشاء ، كما في لفظ الكتاب العزيز . وقد ورد في تسميتها بالعتمة ما يقتضي الكراهة وورد أيضا في الصحيح تسميتها بالعتمة . ولعله لبيان الجواز ، أو لعل المكروه : أن يغلب عليها اسم " العتمة " بحيث يكون اسم " العشاء " لها مهجورا ، أو كالمهجور .

" وكراهية النوم قبلها " لأنه قد يكون سببا لنسيانها ، أو لتأخيرها إلى خروج وقتها المختار . " وكراهة الحديث بعدها " إما : لأنه يؤدي إلى سهر يفضي إلى النوم عن الصبح ، أو إلى إيقاعها في غير وقتها المستحب . أو لأن الحديث قد يقع [ ص: 172 ] فيه من اللغط واللغو ما لا ينبغي ختم اليقظة به ، أو لغير ذلك . والله أعلم .

والحديث هاهنا : قد يخص بما لا يتعلق بمصلحة الدين ، أو إصلاح المسلمين من الأمور الدنيوية . فقد صح " أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه بعد العشاء " وترجم عليه البخاري " باب السمر بالعلم " ويستثنى منه أيضا ما تدعو الحاجة إلى الحديث فيه من الأشغال التي تتعلق بها مصلحة الإنسان . وقوله " وكان ينفتل . .. إلخ " دليل على التغليس بصلاة الفجر : فإن ابتداء معرفة الإنسان لجليسه يكون مع بقاء الغبش . وقوله " وكان يقرأ بالستين إلى المائة " أي بالستين من الآيات إلى المائة منها . وفي ذلك مبالغة في التقدم في أول الوقت . لا سيما مع ترتيل قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية