إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
48 - الحديث الخامس : عن علي رضي الله عنه : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا ، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس } . وفي لفظ لمسلم { شغلونا عن الصلاة الوسطى - صلاة العصر - ثم صلاها بين المغرب والعشاء } .

49 - وله عن عبد الله بن مسعود قال { حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العصر ، حتى احمرت الشمس أو اصفرت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى - صلاة العصر - ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا ، أو حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا } .


فيه بحثان . أحدهما : أن العلماء اختلفوا في تعيين الصلاة الوسطى فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنها العصر . ودليلهما هذا الحديث ، مع غيره . وهو قوي في [ ص: 173 ] المقصود . وهذا المذهب هو الصحيح في المسألة . وميل مالك والشافعي إلى اختيار " صلاة الصبح " والذين اختاروا ذلك اختلفوا في طريق الجواب عن هذا الحديث . فمنهم من سلك فيه مسلك المعارضة . وعورض بالحديث الذي رواه مالك من حديث أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال { أمرتني عائشة : أن أكتب لها مصحفا ، ثم قالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فلما بلغتها آذنتها ، فأملت علي : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، صلاة العصر . وقوموا لله قانتين . ثم قالت : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم } وروى مالك أيضا عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع قال { كنت أكتب مصحفا لحفصة أم المؤمنين . فقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فلما بلغتها آذنتها . فأملت علي : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، وصلاة العصر وقوموا لله قانتين } . ووجه الاحتجاج منه : أنه عطف " صلاة العصر " على " الصلاة الوسطى " والمعطوف والمعطوف عليه متغايران .

ويقع الكلام في هذا من وجهين :

أحدهما : أنه يتعلق بمسألة أصولية . وهو أن ما روي من القرآن بطريق الآحاد - إذا لم يثبت كونه قرآنا - فهل يتنزل منزلة الأخبار في العمل به ؟ فيه خلاف بين الأصوليين . والمنقول عن أبي حنيفة : أنه يتنزل منزلة الأخبار في العمل به . ولهذا أوجب التتابع في صوم الكفارة للقراءة الشاذة " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " والذي اختاره : خلاف ذلك ، وقالوا : لا سبيل إلى إثبات كونه قرآنا بطريق الآحاد ، ولا إلى إثبات كونه خبرا ; لأنه لم يرو على أنه خبر .

الثاني : احتمال اللفظ للتأويل ، وأن يكون ذلك كالعطف في قول الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام ، وليث الكتيبة في المزدحم

فقد وجد العطف هاهنا مع اتحاد الشخص . وعطف الصفات بعضها على بعض موجود في كلام العرب . وربما سلك بعض من رجح أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح : طريقة أخرى وهو ما يقتضيه قرينة قوله تعالى { وقوموا لله قانتين } من كونها " الصبح " الذي فيه القنوت . وهذا ضعيف من وجهين :

[ ص: 174 ] أحدهما : أن " القنوت " لفظ مشترك . يطلق على القيام ، وعلى السكوت ، وعلى الدعاء ، وعلى كثرة العبادة فلا يتعين حمله على " القنوت " الذي في صلاة الصبح .

الثاني : أنه قد يعطف حكم على حكم ، وإن لم يجتمعا معا في محل واحد مختصمين به . فالقرينة ضعيفة .

وربما سلكوا طريقا أخرى . وهو إيراد الأحاديث التي تدل على تأكيد أمر صلاة الفجر . كقوله صلى الله عليه وسلم { لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا } ولكونهم كانوا يعلمون نفاق المنافقين بتأخرهم عن صلاة العشاء والصبح . وهذا معارض بالتأكيدات الواردة في " صلاة العصر " كقوله صلى الله عليه وسلم { من صلى البردين دخل الجنة } وكقوله { فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } وقد حمل قوله عز وجل { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } على صلاة الصبح والعصر . بل نزيد ، فنقول : قد ثبت من التشديد في ترك صلاة العصر ما لا نعلمه ورد في صلاة الصبح . وهو قوله صلى الله عليه وسلم { من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله } . وربما سلك من رجح الصبح طريق المعنى ، وهو أن تخصيص الصلاة الوسطى بالأمر بالمحافظة لأجل المشقة في ذلك . وأشق الصلوات : صلاة الصبح ; لأنها تأتي في حال النوم والغفلة . وقد قيل : إن ألذ النوم إغفاءة الفجر . فناسب أن تكون هي المحثوث على المحافظة عليها . وهذا قد يعارض في صلاة العصر بمشقة أخرى ، وهي أنها وقت اشتغال الناس بالمعاش والتكسب ، ولو لم يعارض بذلك لكان المعنى الذي ذكره في صلاة الصبح ساقط الاعتبار ، مع النص على أنها العصر . وللفضائل والمصالح مراتب لا يحيط بها البشر . فالواجب اتباع النص فيها . وربما سلك المخالف لهذا المذهب مسلك النظر في كونها " وسطى " من [ ص: 175 ] حيث العدد . وهذا عليه أمران :

أحدهما : أن " الوسطى " لا يتعين أن تكون من حيث العدد . فيجوز أن تكون من حيث الفضل ، كما يشير إليه قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } أي عدولا .

الثاني : أنه إذا كان من حيث العدد ، فلا بد من أن يعين ابتداء في العدد يقع بسببه معرفة الوسط . وهذا يقع فيه التعارض . فمن يذهب إلى أنها " الصبح " يقول : سبقها المغرب والعشاء ليلا . وبعدها الظهر والعصر نهارا . فكانت هي الوسطى . ومن يقول " هي المغرب " يقول : سبق الظهر والعصر وتأخر العشاء والصبح ، فكانت المغرب هي وسطى . ويترجح هذا بأن صلاة الظهر قد سميت الأولى . وعلى كل حال : فأقوى ما ذكرناه : حديث العطف الذي صدرنا به . ومع ذلك : فدلالته قاصرة عن هذا النص الذي استدل به على أنها " العصر " والاعتقاد المستفاد من هذا الحديث : أقوى من الاعتقاد المستفاد من حديث العطف . والواجب على الناظر المحقق : أن يزن الظنون ، ويعمل بالأرجح منها .

البحث الثاني : قوله " ثم صلاها بين المغرب والعشاء " يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون التقدير : فصلاها بين وقت المغرب ووقت العشاء .

والثاني : أن يكون التقدير : فصلاها بين صلاة المغرب وصلاة العشاء وعلى هذا التقدير : يكون الحديث دالا على أن ترتيب الفوائت غير واجب ; لأنه يكون صلاها - أعني العصر الفائتة - بعد صلاة المغرب الحاضرة . وذلك لا يراه من يوجب الترتيب ، إلا أن هذا الاستدلال يتوقف على دليل يرجح هذا التقدير - أعني قولنا : بين صلاة المغرب وصلاة العشاء - على التقدير الأول - أعني قولنا : بين وقت المغرب ووقت العشاء - فإن وجد دليل على هذا الترجيح تم الاستدلال ، وإلا وقع الإجمال . وفي هذا الترجيح - الذي أشرنا إليه - مجال للنظر على حسب قواعد علم العربية والبيان . وقد ورد التصريح بما يقتضي الترجيح للتقدير الأول وهو { أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالعصر وصلى بعدها المغرب } وهو حديث صحيح . فلا يلتفت إلى غيره من الاحتمالات والترجيحات . والله أعلم .

. وحديث ابن مسعود الآتي عقيب هذا الحديث : يدل على أن " الصلاة الوسطى : صلاة العصر " أيضا ، كما في الحديث . [ ص: 176 ] وقوله فيه " حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس ، أو اصفرت " وقت الاصفرار : وقت الكراهة . ويكون وقت الاختيار خارجا . ولا تؤخر الصلاة عن وقت الاختيار . فقد ورد أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } والمراد بذلك : أنه لو كانت الآية نزلت لأقيمت الصلاة في حالة الخوف على ما اقتضته الآية . وقوله " حتى اصفرت الشمس " قد يتوهم منه مخالفة لما في الحديث الأول ، من صلاتها بين المغرب والعشاء . وليس كذلك ، بل الحبس انتهى إلى هذا الوقت . ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب ، كما في الحديث الأول . وقد يكون ذلك الاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها ، فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتض لجواز التأخير إلى ما بعد الغروب . .

وفي الحديث : دليل على جواز الدعاء على الكفار بمثل هذا . ولعل قائلا يقول : فيه متمسك لعدم رواية الحديث بالمعنى . فإن ابن مسعود تردد بين قوله " ملأ الله " أو " حشا الله " ولم يقتصر على أحد اللفظين ، مع تقاربهما في المعنى . وجوابه : أن بينهما تفاوتا . فإن قوله " حشا الله " يقتضي من التراكم وكثرة أجزاء المحشو ما لا يقتضيه " ملأ " وقد قيل : إن شرط الرواية بالمعنى : أن يكون اللفظان مترادفين ، لا ينقص أحدهما عن الآخر . على أنه وإن جوزنا بالمعنى ، فلا شك أن رواية اللفظ أولى . فقد يكون ابن مسعود تحرى لطلب الأفضل . .

التالي السابق


الخدمات العلمية