إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
50 - الحديث السادس : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال { أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء . فخرج عمر ، فقال : الصلاة ، يا رسول الله . رقد النساء والصبيان . فخرج ورأسه يقطر يقول : لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة . } .


" عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو العباس ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 177 ] أحد أكابر الصحابة وعلمائهم . كان يقال له " البحر " لسعة علمه . مات بالطائف سنة ثمان وستين في أيام ابن الزبير . وولد قبل الهجرة بثلاث سنين ، في قول الواقدي .

وفي الحديث مباحث :

الأول : يقال " عتم الليل " يعتم - بكسر التاء - إذا أظلم ، والعتمة : الظلمة وقيل : إنها اسم لثلث الليل الأول بعد غروب الشفق . نقل ذلك عن الخليل . وقوله " أعتم " أي دخل في العتمة ، كما يقال : أصبح ، وأمسى ، وأظهر . قال الله تعالى : { حين تمسون وحين تصبحون } - إلى قوله - { وحين تظهرون } .

الثاني : اختلف الناس في كراهية تسمية " العشاء " بالعتمة ، فمنهم من أجازه ، واستدل بهذا الحديث . وفي الاستدلال به نظر . فإن قوله " أعتم " أي دخل في وقت العتمة . والمراد : صلى فيه . ولا يلزم من ذلك أن يكون سمى العشاء " عتمة " وأصح منه : الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم { لو يعلمون ما في العتمة والصبح } ومنهم من كره ذلك . قال الشافعي : وأحب أن لا تسمى صلاة العشاء بالعتمة . ومستنده هذا الحديث الصحيح ، عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ، ألا وإنها العشاء . ولكنهم يعتمون بالإبل } أي يؤخرون حلبها إلى أن يظلم الظلام . وعتمة الليل : ظلمته ، كما قدمناه .

وهذا الحديث يدل على هذا المقصود من وجوه :

أحدها : صيغة النهي .

والثاني : ما في قوله " تغلبنكم " فإن فيه تنفيرا عن هذه التمسية . فإن النفوس تأنف من الغلبة .

والثالث : إضافة الصلاة إليهم ، في قوله " على اسم صلاتكم " فإن فيه زيادة .

ألا ترى أنا لو قلنا : لا تغلبن على مالك : كان أشد تنفيرا من قولنا : لا تغلبن على مال ، أو على المال ؟ لدلالة الإضافة على الاختصاص به . ولعل الأقرب : أن تجوز هذه التسمية ، ويكون الأولى تركها . وقد قدمنا الفرق بين كون الأولى ترك الشيء ، وبين كونه مكروها . أما الجواز : فلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم . وأما عدم الأولوية : فللحديث المذكور . ولفظ الشافعي - وهو قوله " لا أحب " - أقرب إلى ما ذكرناه من قول من قال من أصحابه " ويكره أن يقال لها العتمة " . أو يقول : المنهي عنه إنما هو الغلبة على الاسم . وذلك بأن يستعمل دائما ، [ ص: 178 ] أو أكثريا . ولا يناقضه أن يستعمل قليلا . فيكون الحديث من باب استعماله قليلا . أعني قوله صلى الله عليه وسلم { ولو يعلمون ما في العتمة والصبح } ويكون حديث ابن عمر محمولا على أن تسمى بذلك الاسم غالبا أو دائما . .

الثالث : في الحديث دليل على أن الأولى : تأخير العشاء . وقد قدمنا اختلاف العلماء فيه . ووجه الاستدلال : قوله صلى الله عليه وسلم { لولا أن أشق على أمتي } ، أو على الناس . .. إلخ . وفيه دليل على أن المطلوب تأخيرها لولا المشقة .

الرابع : قد حكينا أن " العتمة " اسم لثلث الليل بعد غيبوبة الشفق فلا ينبغي أن يحمل قوله " أعتم " على أول أجزاء هذا الوقت ، فإن أول أجزائه : بعد غيبوبة الشفق ولا يجوز تقديم الصلاة على ذلك الوقت . وإنما ينبغي أن يحمل على آخره ، أو ما يقارب ذلك . فيكون ذلك مخالفا للعادة ، وسببا لقول عمر رضي الله عنه " رقد النساء والصبيان " .

الخامس : قد كنا قدمنا في قوله صلى الله عليه وسلم { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } أنه استدل بذلك على أن الأمر للوجوب . فلك أن تنظر : هل يتساوى هذا اللفظ مع ذلك في الدلالة ، أم لا ؟ فأقول : لقائل أن يقول : لا يتساوى مطلقا . فإن وجه الدليل ثم : أن كلمة " لولا " تدل على انتماء الشيء لوجود غيره . فيقتضي ذلك انتفاء الأمر لوجود المشقة . والأمر المنتفى ليس أمر الاستحباب ، لثبوت الاستحباب فيكون المنتفي ، هو أمر الوجوب . فثبت أن الأمر المطلق للوجوب . فإذا استعملنا هذا الدليل في هذا المكان ، وقلنا : إن الأمر المنتفى ليس أمر الاستحباب - لثبوت الاستحباب - توجه المنع هاهنا ، عند من يرى أن تقديم العشاء أفضل بالدلائل الدالة على ذلك اللهم إلا أن يضم إلى الاستدلال : الدلائل الخارجة ، الدالة [ ص: 179 ] على استحباب التأخير فيترجح على الدلائل المقتضية للتقديم . ويجعل ذلك مقدمة . ويكون المجموع دليلا على أن الأمر للوجوب . فحينئذ يتم ذلك بهذه الضميمة .

السادس : في الحديث دليل على تنبيه الأكابر : إما لاحتمال غفلة ، أو لاستثارة فائدة منهم في التنبيه . لقول عمر " رقد النساء والصبيان " .

السابع : يحتمل أن يكون قوله " رقد النساء والصبيان " راجعا إلى من حضر المسجد منهم ، لقلة احتمالهم المشقة في السهر . فيرجع ذلك إلى أنهم كانوا يحضرون المسجد لصلاة الجماعة . ويحتمل أن يكون راجعا إلى من خلفه المصلون في البيوت من النساء والصبيان . ويكون قوله " رقد النساء " إشفاقا عليهن من طول الانتظار .

التالي السابق


الخدمات العلمية