إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
53 - الحديث الثامن : ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { لا صلاة بحضرة طعام ، ولا وهو يدافعه الأخبثان } .


هذا الحديث أدخل في العموم من الحديث الأول . أعني بالنسبة إلى لفظ " الصلاة " والنظر إلى المعنى يقتضي التعميم وهو الأليق بمذهب الظاهرية وقد قدمنا ما يتعلق بحضور الطعام . " والأخبثان " الغائط والبول . وقد ورد مصرحا به في بعض الأحاديث . و " مدافعة الأخبثين " إما أن تؤدي إلى الإخلال بركن ، أو شرط ، أو لا . فإن أدى إلى ذلك ، امتنع دخول الصلاة معه . وإن دخل واختل الركن أو الشرط : فسدت بذلك الاختلال . وإن لم يؤد إلى ذلك فالمشهور فيه الكراهة . ونقل عن مالك : أن ذلك مؤثر في الصلاة بشرط شغله عنه ، وقال : يعيد في الوقت وبعده . وتأوله بعض أصحابه على أنه إن شغله ، حتى إنه لا يدري كيف صلى . فهو الذي يعيد قبل وبعد ، وأما إن شغله شغلا خفيفا لم يمنعه من إقامة حدودها ، وصلى ضاما بين وركيه ، فهو الذي يعيد في الوقت . وقال القاضي عياض : وكلهم مجمعون على أن من بلغ به ما لا يعقل به صلاته ولا يضبط حدودها : أنه لا يجوز ، ولا يحل له الدخول كذلك في الصلاة ، وأنه يقطع صلاته إن أصابه ذلك فيها . وهذا الذي قدمناه من التأويل ، وكلام القاضي عياض : فيه بعض إجمال .

والتحقيق : ما أشرنا إليه أولا ، أنه إن منع من ركن أو شرط : امتنع الدخول في الصلاة معه . وفسدت الصلاة باختلال الركن والشرط ، وإن لم يمنع من ذلك فهو مكروه ، إن نظر إلى المعنى ، أو ممتنع إن نظر إلى ظاهر النهي . ولا يقتضي ذلك [ ص: 182 ] الإعادة على مذهب الشافعي . وأما ما ذكر من التأويل أنه " لا يدري كيف صلى " أو ما قال القاضي عياض " إن من بلغ به ما لا يعقل صلاته " فإن أريد بذلك : الشك في شيء من الأركان فحكمه حكم من شك في ذلك بغير هذا السبب . وهو البناء على اليقين . وإن أريد به : أنه يذهب الخشوع بالكلية : فحكمه حكم من صلى بغير خشوع . ومذهب جمهور الأمة : أن ذلك لا يبطل الصلاة . وقول القاضي " ولا يضبط حدودها " إن أريد به : أنه لا يفعلها كما وجب عليه : فهو ما ذكرناه مبينا .

وإن أريد به : أنه لا يستحضرها ، فإن أوقع ذلك شكا في فعلها ، فحكمه حكم الشاك في الإتيان بالركن ، أو الإخلال بالشرط من غير هذه الجهة . وإن أريد به غير ذلك ، من ذهاب الخشوع : فقد بيناه أيضا . وهذا الذي ذكرناه : إنما هو بالنسبة إلى إعادة الصلاة . وأما بالنسبة إلى جواز الدخول فيها ، فقد يقال : إنه لا يجوز له أن يدخل في صلاة لا يتمكن فيها من تذكر إقامة أركانها وشرائطها . وأما ما أشار إليه بعضهم ، من امتناع الصلاة مع مدافعة الأخبثين ، من جهة أن خروج النجاسة عن مقرها يجعلها كالبارزة ، ويوجب انتقاض الطهارة ، وتحريم الدخول في الصلاة ، من غير التأويل الذي قدمناه : فهو عندي بعيد ; لأنه إحداث سبب آخر في انتقاض الطهارة من غير دليل ، صريح فيه . فإن أسنده إلى هذا الحديث ، فليس بصريح في أن السبب ما ذكره . وإنما غايته : أنه مناسب أو محتمل . والله أعلم . .

التالي السابق


الخدمات العلمية