إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
5 - الحديث الخامس : عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ، ثم يغتسل منه } ولمسلم { لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } .


[ ص: 73 ] الكلام عليه من وجوه :

الأول : " الماء الدائم " هو الراكد .

وقوله " الذي لا يجري " تأكيد لمعنى الدائم .

وهذا الحديث مما يستدل به أصحاب أبي حنيفة على تنجيس الماء الراكد ، وإن كان أكثر من قلتين ; فإن الصيغة صيغة عموم .

وأصحاب الشافعي : يخصون هذا العموم ، ويحملون النهي على ما دون القلتين . ويقولون بعدم تنجيس القلتين - فما زاد - إلا بالتغير : مأخوذ من حديث القلتين . فيحمل هذا الحديث العام في النهي على ما دون القلتين ، جمعا بين الحديثين . فإن حديث القلتين يقتضي عدم تنجيس القلتين فما فوقهما .

وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي ذكرناه .

والخاص مقدم على العام .

ولأحمد طريقة أخرى : وهي الفرق بين بول الآدمي ، وما في معناه ، من عذرته المائعة ، وغير ذلك من النجاسات .

فأما بول الآدمي ، وما في معناه : فينجس الماء ، وإن كان أكثر من قلتين .

وأما غيره من النجاسات : فتعتبر فيه القلتان ، وكأنه رأى الخبث المذكور في حديث القلتين عاما بالنسبة إلى الأنجاس .

وهذا الحديث خاص بالنسبة إلى بول الآدمي .

فيقدم الخاص على العام ، بالنسبة إلى النجاسات الواقعة في الماء الكثير . ويخرج بول الآدمي وما في معناه من جملة النجاسات الواقعة في القلتين بخصوصه .

فينجس الماء دون غيره من النجاسات .

ويلحق بالبول المنصوص عليه : ما يعلم أنه في معناه .

واعلم أن هذا الحديث لا بد من إخراجه عن ظاهره بالتخصيص أو التقييد .

; لأن الاتفاق واقع على أن الماء المستبحر الكثير جدا : لا تؤثر فيه النجاسة .

والاتفاق واقع على أن الماء إذا غيرته النجاسة : امتنع استعماله .

فمالك - رحمه الله - [ ص: 74 ] إذا حمل النهي على الكراهة - لاعتقاده أن الماء لا ينجس إلا بالتغير - لا بد أن يخرج عنه صورة التغير بالنجاسة ، أعني عن الحكم بالكراهية ، فإن الحكم ثم : التحريم ، فإذا لا بد من الخروج عن الظاهر عند الكل .

فلأصحاب أبي حنيفة أن يقولوا : خرج عنه المستبحر الكثير جدا بالإجماع ، فيبقى ما عداه على حكم النص ، فيدخل تحته ما زاد على القلتين .

ويقول أصحاب الشافعي : خرج الكثير المستبحر بالإجماع الذي ذكرتموه .

وخرج القلتان فما زاد ، بمقتضى حديث القلتين ، فيبقى ما نقص عن القلتين داخلا تحت مقتضى الحديث .

ويقول من نصر قول أحمد المذكور : خرج ما ذكرتموه ، وبقي ما دون القلتين داخلا تحت النص ، إلا أن ما زاد على القلتين ، مقتضى حديث القلتين فيه عام في الأنجاس ، فيخص ببول الآدمي .

ولمخالفهم أن يقول : قد علمنا جزما أن هذا النهي إنما هو لمعنى في النجاسة ، وعدم التقرب إلى الله بما خالطها .

وهذا المعنى يستوي فيه سائر الأنجاس ، ولا يتجه تخصيص بول الآدمي منها ، بالنسبة إلى هذا المعنى ، فإن المناسب لهذا المعنى - أعني التنزه عن الأقذار - أن يكون ما هو أشد استقذارا أوقع في هذا المعنى وأنسب له ، وليس بول الآدمي بأقذر من سائر النجاسات ، بل قد يساويه غيره ، أو يرجح عليه فلا يبقى لتخصيصه دون غيره بالنسبة إلى المنع معنى .

فيحمل الحديث على أن ذكر البول ورد تنبيها على غيره ، مما يشاركه في معناه من الاستقذار . والوقوف على مجرد الظاهر ههنا - مع وضوح المعنى ، وشموله لسائر الأنجاس - ظاهرية محضة .

وأما مالك رحمه الله تعالى : فإذا حمل النهي على الكراهية يستمر حكم الحديث في القليل والكثير ، غير المستثنى بالاتفاق [ وهو المستبحر ] مع حصول الإجماع على تحريم الاغتسال بعد تغير الماء بالبول .

فهذا يلتفت إلى حمل اللفظ الواحد إلى معنيين مختلفين ، وهي مسألة أصولية .

فإن جعلنا النهي للتحريم : كان استعماله في الكراهة والتحريم استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه .

والأكثرون على منعه .

والله أعلم . [ ص: 75 ] وقد يقال على هذا : إن حالة التغير مأخوذة من غير هذا اللفظ . فلا يلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين . وهذا متجه ، إلا أنه يلزم منه التخصيص في هذا الحديث . والمخصص : الإجماع على نجاسة المتغير ] .

الوجه الثاني : اعلم أن النهي عن الاغتسال لا يخص الغسل ، بل التوضؤ في معناه .

وقد ورد مصرحا به في بعض الروايات { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ، ثم يتوضأ منه } ولو لم يرد لكان معلوما قطعا ، لاستواء الوضوء والغسل في هذا الحكم ، لفهم المعنى الذي ذكرناه ، وأن المقصود : التنزه عن التقرب إلى الله سبحانه بالمستقذرات .

الثالث : ورد في بعض الروايات " ثم يغتسل منه " وفي بعضها " ثم يغتسل فيه " ومعناهما مختلف ، يفيد كل واحد منهما حكما بطريق النص وآخر بطريق الاستنباط ، ولو لم يرد فيه لفظة " فيه " لاستويا ، لما ذكرنا .

الرابع : مما يعلم بطلانه قطعا : ما ذهبت إليه الظاهرية الجامدة : من أن الحكم مخصوص بالبول في الماء حتى لو بال في كوز وصبه في الماء : لم يضر عندهم . أو لو بال خارج الماء فجرى البول إلى الماء : لم يضر عندهم أيضا . والعلم القطعي حاصل ببطلان قولهم .

لاستواء الأمرين في الحصول في الماء وأن المقصود : اجتناب ما وقعت فيه النجاسة من الماء .

وليس هذا من مجال الظنون ، بل هو مقطوع به .

وأما الرواية الثانية : وهي قوله صلى الله عليه وسلم { لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } فقد استدل به على مسألة المستعمل وأن الاغتسال في الماء يفسده .

; لأن النهي وارد ههنا على مجرد الغسل .

فدل على وقوع المفسدة بمجرده .

وهي [ ص: 76 ] خروجه عن كونه أهلا للتطهير به : إما لنجاسته ، أو لعدم طهوريته ومع هذا فلا بد فيه من التخصيص .

فإن الماء الكثير - إما القلتان فما زاد على مذهب الشافعي ، أو المستبحر على مذهب أبي حنيفة - لا يؤثر فيه الاستعمال .

ومالك لما رأى أن الماء المستعمل طهور ، غير أنه مكروه : يحمل هذا النهي على الكراهة .

وقد يرجحه : أن وجوه الانتفاع بالماء لا تختص بالتطهير .

والحديث عام في النهي .

فإذا حمل على التحريم لمفسدة خروج الماء عن الطهورية : لم يناسب ذلك ; لأن بعض مصالح الماء تبقى بعد كونه خارجا عن الطهورية ، وإذا حمل على الكراهة : كانت المفسدة عامة ; لأنه يستقذر بعد الاغتسال فيه .

وذلك ضرر بالنسبة إلى من يريد استعماله في طهارة أو شرب ، فيستمر النهي بالنسبة إلى المفاسد المتوقعة ، إلا أن فيه حمل اللفظ على المجاز ، أعني حمل النهي على الكراهة .

فإنه حقيقة في التحريم .

التالي السابق


الخدمات العلمية