إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
56 - الحديث الحادي عشر : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، { أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ، وقال : يا رسول الله ، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والله ما صليتها . قال : فقمنا إلى بطحان ، فتوضأ للصلاة ، وتوضأنا لها ، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس . ثم صلى بعدها المغرب } .


[ ص: 188 ] حديث عمر : فيه دليل على جواز سب المشركين لتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على ذلك . لم يعين في الحديث لفظ السب . فينبغي - مع إطلاقه - أن يحمل على ما ليس بفحش .

وقوله " يا رسول الله ما كدت أصلي العصر " يقتضي أنه صلاها قبل الغروب ; لأن النفي إذا دخل على " كاد " تقتضي وقوع الفعل في الأكثر ، كما في قوله عز وجل { وما كادوا يفعلون } وكذا في الحديث . وقوله صلى الله عليه وسلم " والله ما صليتها " قيل : في هذا القسم إشفاق منه صلى الله عليه وسلم على من تركها ، وتحقيق هذا : أن القسم تأكيد للمقسم عليه . وفي هذا القسم إشعار ببعد وقوع المقسم عليه ، حتى كأنه لا يعتقد وقوعه . فأقسم على وقوعه . وذلك يقتضي تعظيم هذا الترك . وهو مقتض للإشفاق منه ، أو ما يقارب هذا المعنى . وفي الحديث : دليل على عدم كراهية قول القائل " ما صلينا " خلاف ما يتوهمه قوم من الناس . وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة لشغله بالقتال ، كما ورد مصرحا به في حديث آخر . وهو قوله صلى الله عليه وسلم { شغلونا عن الصلاة الوسطى } فتمسك به بعض المتقدمين في تأخير الصلاة في حالة الخوف إلى حالة الأمن . والفقهاء على إقامة الصلاة في حالة الخوف . وهذا الحديث ورد في غزوة الخندق وصلاة الخوف - فيما قيل : شرعت في غزوة ذات الرقاع . وهي بعد ذلك . ومن الناس من سلك طريقا آخر . وهو أن الشغل إن أوجب النسيان ، فالترك للنسيان . وربما ادعي الظهور في الدلالة على النسيان . وليس كذلك ، بل الظاهر : تعليق الحكم بالمذكور لفظا وهو الشغل . وقوله " فقمنا إلى بطحان " اسم موضع ، يقوله المحدثون بضم الباء وسكون الطاء وذكر غيرهم فيه الفتح في الباء والكسر في الطاء دون الضم .

وقوله " فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها " قد يشعر بصلاتهم معه صلى الله عليه وسلم جماعة فيستدل به على صلاة الفوائت جماعة . وقوله " فصلى العصر " فيه دليل على تقديم الفائتة على الحاضرة في القضاء . وهو واجب في القليل من الفوائت عند مالك ، وهي ما دون الخمس ، وفي الخمس خلاف . ويستحب عند الشافعي مطلقا . فإذا ضم إلى هذا الحديث [ ص: 189 ] الدليل على اتساع وقت المغرب إلى مغيب الشفق : لم يكن في هذا الحديث دليل على وجوب الترتيب في قضاء الفوائت ; لأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب ، على المختار عند الأصوليين .

وإن ضم إلى هذا الحديث الدليل على تضييق وقت المغرب : كان فيه دليل على وجوب تقديم الفائتة على الحاضرة عند ضيق الوقت ; لأنه لو لم يجب لم تخرج الحاضرة عن وقتها ، لفعل ما ليس بواجب . فالدلالة من هذا الحديث على حكم الترتيب : تنبني على ترجيح أحد الدليلين على الآخر في امتداد وقت المغرب ، أو على القول بأن الفعل للوجوب .

التالي السابق


الخدمات العلمية