إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
58 - الحديث الثاني : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا ، وذلك : أنه إذا توضأ ، فأحسن الوضوء . ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة ، وحط عنه خطيئة . فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ، ما دام في مصلاه : اللهم صل عليه ، اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة } .


الكلام عليه من وجوه :

أحدها : أن لقائل أن يقول : هذا الثواب المقدر لا يحصل بمجرد صلاة الجماعة في البيت . وذلك بناء على ثلاث قواعد . الأولى : أن اللفظ - أعني قوله " وذلك " - أنه يقتضي تعليل الحكم السابق . وهذا ظاهر ; لأن التقدير : وذلك لأنه . وهو مقتض للتعليل . وسياق هذا اللفظ في نظائر هذا اللفظ يقتضي ذلك .

الثانية : أن محل الحكم لا بد أن تكون علته موجودة فيه . وهذا أيضا متفق عليه . وهو ظاهر أيضا . لأن العلة لو لم تكن موجودة في محل الحكم لكانت أجنبية عنه . فلا يحصل التعليل بها .

الثالثة : أن ما رتب على مجموع لم يلزم حصوله في بعض ذلك المجموع إلا [ ص: 192 ] إذا دل الدليل على إلغاء بعض ذلك المجموع ، وعدم اعتباره . فيكون وجوده كعدمه ويبقى ما عداه معتبرا . لا يلزم أن يترتب الحكم على بعضه . فإذا تقررت هذه القواعد : فاللفظ يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بمضاعفة صلاة الرجل في الجماعة على صلاته في بيته وسوقه بهذا القدر المعين . وعلل ذلك باجتماع أمور :

منها : الوضوء في البيت ، والإحسان فيه ، والمشي إلى الصلاة لرفع الدرجات . وصلاة الملائكة عليه ما دام في مصلاه . وإذا علل هذا الحكم باجتماع هذه الأمور ، فلا بد أن يكون المعتبر من هذه الأمور موجودا في محل الحكم . وإذا كان موجودا فكل ما أمكن أن يكون معتبرا منها ، فالأصل : أن لا يترتب الحكم بدونه . فمن صلى في بيته في جماعة لم يحصل في صلاته بعض هذا المجموع ، وهو المشي الذي به ترفع له الدرجات وتحط عنه الخطيئات . فمقتضى القياس : أن لا يحصل هذا القدر من المضاعفة له . لأن هذا الوصف - أعني المشي إلى المسجد ، مع كونه رافعا للدرجات ، حاطا للخطيئات - لا يمكن إلغاؤه . وهذا مقتضى القياس في هذا اللفظ ، إلا أن الحديث الآخر - وهو الذي يقتضي ترتيب هذا الحكم على مطلق صلاة الجماعة - : يقتضي خلاف ما قلناه ، وهو حصول هذا المقدار من الثواب لمن صلى جماعة في بيته . فيتصدى النظر في مدلول كل واحد من الحديثين بالنسبة إلى العموم والخصوص وروي عن أحمد رحمه الله رواية أنه ليس يتأدى الفرض في الجماعة بإقامتها في البيوت ، أو معنى ذلك . ولعل هذا نظرا إلى ما ذكرناه .

البحث الثاني : هذا الذي ذكرناه : أمر يرجع إلى المفاضلة بين صلاة الجماعة في المساجد والانفراد . وهل يحصل للمصلي في البيوت جماعة هذا المقدار من المضاعفة أم لا ؟ والذي يظهر من إطلاقهم : حصوله . ولست أعني أنه لا تفضل صلاة الجماعة في البيت على الانفراد فيه . فإن ذلك لا شك فيه . إنما النظر : في أنه هل يتفاضل بهذا القدر المخصوص أم لا ؟ ولا يلزم من عدم هذا القدر المخصوص من الفضيلة : عدم حصول مطلق الفضيلة . وإنما تردد أصحاب الشافعي في أن إقامة الجماعة في غير المساجد : هل يتأدى بها المطلوب ؟ فعن [ ص: 193 ] بعضهم : أنه لا يكفي إقامة الجماعة في البيوت في إقامة الفرض ، أعني إذا قلنا : إن صلاة الجماعة فرض على الكفاية . وقال بعضهم : يكفي إذا اشتهر ، كما إذا صلى صلاة الجماعة في السوق مثلا . والأول عندي : أصح ; لأن أصل المشروعية إنما كان في جماعة المساجد . هذا وصف معتبر لا يتأتى إلغاؤه . وليست هذه المسألة هي التي صدرنا بها هذا البحث أولا ; لأن في هذه نظر في أن إقامة الشعار هل تتأدى بصلاة الجماعة في البيوت أم لا ؟ والذي بحثناه أولا : هو أن صلاة الجماعة في البيت هل تتضاعف بالقدر المخصوص أم لا ؟

البحث الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه } يتصدى النظر هنا : هل صلاته في جماعة في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه جماعة ، أو تفضل عليها منفردا ؟ أما الحديث : فمقتضاه أن صلاته في المسجد جماعة تفضل على صلاته في بيته وسوقه جماعة وفرادى بهذا القدر . لأن قوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الرجل في جماعة } محمول على الصلاة في المسجد . لأنه قوبل بالصلاة في بيته وسوقه . ولو جرينا على إطلاق اللفظ : لم تحصل المقابلة ; لأنه يكون قسم الشيء قسما منه . وهو باطل . وإذا حمل على صلاته في المسجد ، فقوله صلى الله عليه وسلم " صلاته في بيته وسوقه " عام يتناول الأفراد والجماعة . وقد أشار بعضهم إلى هذا بالنسبة إلى الانفراد في المسجد والسوق من جهة ما ورد أن " الأسواق موضع الشياطين " فتكون الصلاة فيها ناقصة الرتبة ، كالصلاة في المواضع المكروهة لأجل الشياطين ، كالحمام . وهذا الذي قاله - وإن أمكن في السوق - ليس يطرد في البيت . فلا ينبغي أن تتساوى فضيلة الصلاة في البيت جماعة مع فضيلة الصلاة في السوق جماعة ، في مقدار الفضيلة التي لا توجد إلا بالتوقيف . فإن الأصل : أن لا يتساوى ما وجد فيه مفسدة معينة مع ما لم توجد فيه تلك المفسدة . هذا ما يتعلق بمقتضى اللفظ . ولكن الظاهر مما يقتضيه السياق : أن المراد تفضيل صلاة الجماعة في المسجد على صلاته في بيته وسوقه منفردا : فكأنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا . [ ص: 194 ] وبهذا يرتفع الإشكال الذي قدمناه من استبعاد تساوي صلاته في البيت مع صلاته في السوق جماعة فيهما ، وذلك ; لأن من اعتبر معنى السوق ، مع إقامة الجماعة فيه . وجعله سببا لنقصان الجماعة فيه عن الجماعة في المسجد . يلزمه تساوي ما وجدت فيه مفسدة معتبرة مع ما لم توجد فيه تلك المفسدة في مقدار التفاضل . أما إذا جعلنا التفاضل بين صلاة الجماعة في المسجد وصلاتها في البيت والسوق منفردا ، فوصف " السوق " هاهنا ملغى ، غير معتبر .

فلا يلزم تساوي ما فيه مفسدة مع ما لا مفسدة فيه في مقدار التفاضل . والذي يؤيد هذا : أنهم لم يذكروا السوق في الأماكن المكروهة للصلاة . وبهذا فارق الحمام المستشهد بها .

البحث الرابع : قد قدمنا أن الأوصاف التي يمكن اعتبارها لا تلغى . فلينظر الأوصاف المذكورة في الحديث ، وما يمكن أن يجعل معتبرا منها وما لا . أما وصف الرجولية : فحيث يندب للمرأة الخروج إلى المسجد ، ينبغي أن تتساوى مع الرجل ، لأن وصف الرجولية بالنسبة إلى ثواب الأعمال غير معتبر شرعا . وأما الوضوء في البيت : فوصف كونه في البيت غير داخل في التعليل . وأما الوضوء : فمعتبر للمناسبة ، لكن : هل المقصود منه مجرد كونه طاهرا ، أو فعل الطهارة ؟ فيه نظر . ويترجح الثاني بأن تجديد الوضوء مستحب ، لكن الأظهر : أن قوله صلى الله عليه وسلم " إذا توضأ " لا يتقيد بالفعل . وإنما خرج مخرج الغلبة ، أو ضرب المثال . وأما إحسان الوضوء : فلا بد من اعتباره . وبه يستدل على أن المراد فعل الطهارة . لكن يبقى ما قلناه : من خروجه مخرج الغالب ، أو ضرب المثال وأما خروجه إلى الصلاة : فيشعر بأن الخروج لأجلها . وقد ورد مصرحا به في حديث آخر { لا ينهزه إلا الصلاة } وهذا وصف معتبر . وأما صلاته مع الجماعة : فبالضرورة لا بد من اعتبارها . فإنها محل الحكم .

البحث الخامس : الخطوة - بضم الخاء - ما بين قدمي الماشي ، وبفتحها : الفعلة . وفي هذا الموضع هي مفتوحة ، لأن المراد فعل الماشي .

التالي السابق


الخدمات العلمية