إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
59 - الحديث الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أثقل الصلاة على المنافقين : صلاة العشاء ، وصلاة [ ص: 195 ] الفجر . ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبوا . ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار } .


الكلام عليه من وجوه :

أحدها : قوله صلى الله عليه وسلم " أثقل الصلاة " محمول على الصلاة في جماعة ، وإن كان غير مذكور في اللفظ . لدلالة السياق عليه . وقوله عليه السلام " لأتوهما ولو حبوا " وقوله " ولقد هممت - إلى قوله - لا يشهدون الصلاة " كل ذلك مشعر بأن المقصود : حضورهم إلى جماعة المسجد .

الثاني : إنما كانت هاتان الصلاتان أثقل على المنافقين . لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما ، وقوة الصارف عن الحضور ، أما العشاء : فلأنها وقت الإيواء إلى البيوت والاجتماع مع الأهل ، واجتماع ظلمة الليل ، وطلب الراحة من متاعب السعي بالنهار . وأما الصبح : فإنها في وقت لذة النوم . فإن كانت في زمن البرد ففي وقت شدته ، لبعد العهد بالشمس ، لطول الليل ، وإن كانت في زمن الحر : فهو وقت البرد والراحة من أثر حر الشمس لبعد العهد بها . فلما قوي الصارف عن الفعل ثقلت على المنافقين . وأما المؤمن الكامل الإيمان : فهو عالم بزيادة الأجر لزيادة المشقة فتكون هذه الأمور داعية له إلى هذا الفعل ، كما كانت صارفة للمنافقين ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " ولو يعلمون ما فيهما " أي من الأجر والثواب " لأتوهما ولو حبوا " وهذا كما قلنا : إن هذه المشقات تكون داعية للمؤمن إلى الفعل

الثالث : اختلف العلماء في الجماعة في غير الجمعة فقيل : سنة . وهو قول الأكثرين . وقيل : فرض كفاية وهو قول في مذهب الشافعي ومالك . وقيل : [ ص: 196 ] فرض على الأعيان .

قد اختلفوا بعد ذلك . فقيل : شرط في صحة الصلاة . وهو مروي عن داود . وقيل : إنه رواية عن أحمد . والمعروف عنه : أنها فرض على الأعيان . ولكنها ليست بشرط . فمن قال بأنها واجبة على الأعيان : قد يحتج بهذا الحديث فإنه إن قيل بأنها فرض كفاية ، فقد كان هذا الفرض قائما بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه . وإن قيل : إنها سنة ، فلا يقتل تارك السنن . فيتعين أن تكون فرضا على الأعيان . وقد اختلف في الجواب عن هذا على وجوه ، فقيل : إن هذا في المنافقين ، ويشهد له ما جاء في الحديث الصحيح { لو يعلم أحدهم أن يجد عظما سمينا ، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء } وهذه ليست صفة المؤمنين ، لا سيما أكابرهم وهم الصحابة . وإذا كانت في المنافقين : كان التحريق للنفاق ، لا لترك الجماعة فلا يتم الدليل . قال القاضي عياض رحمه الله : وقد قيل : إن هذا في المؤمنين . وأما المنافقون : فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم ; عالما بطوياتهم . كما أنه لم يعترضهم في التخلف ، ولا عاتبهم معاتبة كعب وأصحابه من المؤمنين . وأقول : هذا إنما يلزم إذا كان ترك معاقبة المنافقين واجبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فحينئذ يمتنع أن يعاقبهم بهذا التحريق ، فيجب أن يكون الكلام في المؤمنين ، ولنا أن نقول : إن ترك عقاب المنافقين وعقابهم كان مباحا للنبي صلى الله عليه وسلم مخيرا فيه . فعلى هذا : لا يتعين أن يحمل هذا الكلام على المؤمنين ، إذ يجوز أن يكون في المنافقين ، لجواز معاقبة النبي صلى الله عليه وسلم لهم ، وليس في إعراضه عنهم بمجرده ما يدل على وجوب ذلك عليه . ولعل قوله صلى الله عليه وسلم - عندما طلب منه قتل بعضهم - " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " يشعر بما ذكرناه في التخيير ; لأنه لو كان يجب عليه ترك قتلهم لكان الجواب بذكر المانع الشرعي ، وهو أنه لا يحل قتلهم . ومما يشهد لمن قال " إن ذلك في المنافقين " عندي : سياق الحديث من أوله . وهو قوله صلى الله عليه وسلم " أثقل الصلاة على المنافقين " . وجه آخر في تقدير كونه في المنافقين : أن يقول القائل : هم النبي صلى الله عليه وسلم بالتحريق يدل على جوازه ، وتركه التحريق يدل على جواز هذا الترك . فإذا اجتمع [ ص: 197 ] جواز التحريق وجواز تركه في حق هؤلاء القوم . وهذا المجموع لا يكون في المؤمنين فيما هو حق الله تعالى .

ومما أجيب به عن حجة أصحاب الوجوب على الأعيان : ما قاله القاضي عياض رحمه الله . والحديث حجة على داود ، لا له .

لأن النبي صلى الله عليه وسلم هم ، ولم يفعل . ولأنه يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزئة . وهو موضع البيان . وأقول : أما الأول : فضعيف جدا ، إن سلم القاضي أن الحديث في المؤمنين ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله .

وأما الثاني - وهو قوله " ولأنه لم يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزئة " وهو موضع البيان - فلقائل أن يقول : البيان قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة ، ولما قال صلى الله عليه وسلم " ولقد هممت " إلى آخره : دل على وجوب الحضور عليهم للجماعة . فإذا دل الدليل على أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها غالبا . كان ذكره صلى الله عليه وسلم لهذا الهم دليلا على لازمه وهو وجوب الحضور . وهو دليل على الشرطية . فيكون ذكر هذا الهم دليلا على لازمه . وهو وجوب الحضور . ووجوب الحضور دليلا على لازمه ، وهو اشتراط الحضور . فذكر هذا الهم بيان للاشتراط بهذه الوسيلة ، ولا يشترط في البيان أن يكون نصا ، كما قلنا . إلا أنه لا يتم هذا إلا ببيان أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها ، وقد قيل : إنه الغالب . ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد - في أظهر قوليه - إن الجماعة واجبة على الأعيان ، غير شرط .

ومما أجيب به عن استدلال الموجبين لصلاة الجماعة على الأعيان : أنه اختلف في هذه الصلاة التي هم النبي صلى الله عليه وسلم بالمعاقبة عليها . فقيل : العشاء . وقيل : الجمعة . وقد وردت المعاقبة على كل واحدة منهما مفسرة في الحديث . وفي بعض الروايات " العشاء ، أو الفجر " فإذا كانت هي الجمعة - والجماعة شرط فيها - لم يتم الدليل على وجوب الجماعة مطلقا في غير الجمعة ، وهذا يحتاج أن ينظر في تلك الأحاديث التي بينت فيها تلك الصلاة : أهي الجمعة ، أو العشاء ، أو الفجر ؟ فإن كانت أحاديث مختلفة ، قيل بكل واحد منها . وإن كان حديثا واحدا [ ص: 198 ] اختلفت فيه الطرق ، فقد يتم هذا الجواب ، إن عدم الترجيح بين بعض تلك الروايات وبعض ، وعدم إمكان أن يكون الجميع مذكورا . فترك بعض الرواة بعضه ظاهرا ، بأن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد إحدى الصلاتين . أعني الجمعة ، أو العشاء - مثلا - فعلى تقدير أن تكون هي الجمعة : لا يتم الدليل . وعلى تقدير أن تكون هي العشاء : يتم . وإذا تردد الحال وقف الاستدلال .

ومما ينبه عليه هنا : أن هذا الوعيد بالتحريق إذا ورد في صلاة معينة - وهي العشاء ، أو الجمعة ، أو الفجر - فإنما يدل على وجوب الجماعة في هذه الصلوات . فمقتضى مذهب الظاهرية : أن لا يدل على وجوبها في غير هذه الصلوات ، عملا بالظاهر ، وترك اتباع المعنى . اللهم إلا أن يؤخذ قوله صلى الله عليه وسلم { أن آمر بالصلاة فتقام } على عموم الصلاة . فحينئذ يحتاج في ذلك إلى اعتبار لفظ ذلك الحديث وسياقه ، وما يدل عليه . فيحمل لفظ " الصلاة " عليه إن أريد التحقيق وطلب الحق . والله أعلم .

الرابع : قوله عليه السلام " ولقد هممت . .. " إلخ . أخذ منه تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة . وسره : أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزواجر اكتفي به من الأعلى .

التالي السابق


الخدمات العلمية