إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
60 - الحديث الرابع : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها . قال : فقال بلال بن عبد الله : والله لنمنعهن . قال : فأقبل عليه عبد الله ، فسبه سبا سيئا ، ما سمعته سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : والله لنمنعهن ؟ } وفي لفظ { لا تمنعوا إماء الله مساجد الله } .


[ ص: 199 ] الحديث صريح في النهي عن المنع للنساء عن المساجد عند الاستئذان وقوله في الرواية الأخرى { لا تمنعوا إماء الله } يشعر أيضا بطلبهن للخروج فإن المانع إنما يكون بعد وجود المقتضى . ويلزم من النهي عن منعهن من الخروج إباحته لهن ; لأنه لو كان ممتنعا لم ينه الرجال عن منعهن منه . والحديث عام في النساء ، ولكن الفقهاء قد خصوه بشروط وحالات : منها : أن لا يتطيبن . وهذا الشرط مذكور في الحديث . ففي بعض الروايات { وليخرجن تفلات } وفي بعضها { إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا } وفي بعضها { إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة } فألحق بالطيب ما في معناه . فإن الطيب إنما منع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم . وربما يكون سببا لتحريك شهوة المرأة أيضا . فما أوجب هذا المعنى التحق به . وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة } ويلحق به أيضا : حسن الملابس ، ولبس الحلي الذي يظهر أثره في الزينة . وحمل بعضهم قول عائشة رضي الله عنها في الصحيح " لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء بعده : لمنعهن المساجد ، كما منعت نساء بني إسرائيل " على هذا ، تعني إحداث حسن الملابس والطيب والزينة . ومما خص به بعضهم هذا الحديث : أن منع الخروج إلى المسجد للمرأة الجميلة المشهورة . ومما ذكره بعضهم مما يقتضي التخصيص : أن يكون بالليل . وقد ورد في كتاب مسلم ما يشعر بهذا المعنى . ففي بعض طرقه { لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل } فالتقييد بالليل قد يشعر بما قال . ومما قيل أيضا في تخصيص هذا الحديث : أن لا يزاحمن الرجال . وبالجملة : فمدار هذا كله النظر إلى المعنى . فما اقتضاه المعنى من المنع جعل خارجا عن الحديث . وخص العموم به . وفي هذا زيادة . وهو أن النص وقع على بعض ما اقتضاه التخصيص ، وهو عدم الطيب . [ ص: 200 ] وقيل : إن في الحديث دليلا على أن للرجل أن يمنع امرأته من الخروج إلا بإذنه . وهذا إن أخذ من تخصيص النهي بالخروج إلى المساجد ، وأن ذلك يقتضي بطريق المفهوم جواز المنع في غير المساجد ، فقد يعترض عليه : بأن هذا تخصيص الحكم باللقب . ومفهوم اللقب ضعيف عند أهل الأصول .

ويمكن أن يقال في هذا : إن منع الرجال للنساء من الخروج مشهور معتاد . وقد قرروا عليه . وإنما علق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز ، وإخراجه عن المنع المستمر المعلوم . فيبقى ما عداه على المنع . وعلى هذا : فلا يكون منع الرجل لخروج امرأته لغير المسجد مأخوذا من تقييد الحكم بالمسجد فقط . ويمكن أن يقال فيه وجه آخر : وهو أن في قوله صلى الله عليه وسلم { لا تمنعوا إماء الله مساجد الله } مناسبة تقتضي الإباحة . أعني كونهن " إماء الله " بالنسبة إلى خروجهن إلى مساجد الله . ولهذا كان التعبير بإماء الله أوقع في النفس من التعبير بالنساء لو قيل . وإذا كان مناسبا أمكن أن يكون علة للجواز ، وإذا انتفى انتفى الحكم ; لأن الحكم يزول بزوال علته . والمراد بالانتفاء ها هاهنا : انتفاء الخروج إلى المساجد ، أي للصلاة . وأخذ من إنكار عبد الله بن عمر على ولده وسبه إياه : تأديب المعترض على السنن برأيه . العامل بهواه ، وتأديب الرجل ولده ، وإن كان كبيرا في تغيير المنكر ، وتأديب العالم من يتعلم عنده إذا تكلم بما لا ينبغي .

وقوله " فقال بلال بن عبد الله " هذه رواية ابن شهاب عن سالم بن عبد الله . وفي رواية ورقاء بن عمر عن مجاهد عن ابن عمر فقال ابن له يقال له : واقد " ولعبد الله بن عمر أبناء . منهم بلال . ومنهم واقد .

التالي السابق


الخدمات العلمية