إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
61 - الحديث الخامس : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال { صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد الجمعة ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء . } [ ص: 201 ] وفي لفظ " فأما المغرب والعشاء والجمعة : ففي بيته " . وفي لفظ : أن ابن عمر قال " حدثتني حفصة : أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر . وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها } .


هذا الحديث : يتعلق بالسنن الرواتب التي قبل الفرائض وبعدها . ويدل على هذا العدد منها . وفي تقديم السنن على الفرائض وتأخيرها عنها : معنى لطيف مناسب . أما في التقديم : فلأن الإنسان يشتغل بأمور الدنيا وأسبابها . فتتكيف النفس من ذلك بحالة بعيدة عن حضور القلب في العبادة ، والخشوع فيها ، الذي هو روحها . فإذا قدمت السنن على الفريضة تأنست النفس بالعبادة ، وتكيفت بحالة تقرب من الخشوع . فيدخل في الفرائض على حالة حسنة لم تكن تحصل له لو لم تقدم السنة . فإن النفس مجبولة على التكيف بما هي فيه ، لا سيما إذا كثر أو طال . وورود الحالة المنافية لما قبلها قد يمحو أثر الحالة السابقة أو يضعفه . وأما السنن المتأخرة : فلما ورد أن النوافل جابرة لنقصان الفرائض . فإذا وقع الفرض ناسب أن يكون بعده ما يجبر خللا فيه إن وقع .

وقد اختلفت الأحاديث في أعداد ركعات الرواتب فعلا وقولا . واختلفت مذاهب الفقهاء في الاختيار لتلك الأعداد والرواتب . والمروي عن مالك : أنه لا توقيت في ذلك .

قال ابن القاسم صاحبه : وإنما يوقت في هذا أهل العراق .

والحق - والله أعلم - في هذا الباب - أعني ما ورد فيه أحاديث بالنسبة إلى التطوعات والنوافل المرسلة - أن كل حديث صحيح دل على استحباب عدد من هذه الأعداد ، أو هيئة من الهيئات ، أو نافلة من النوافل : يعمل به في استحبابه ثم تختلف مراتب ذلك المستحب . فما كان الدليل دالا على تأكده - إما بملازمته فعلا ، أو بكثرة فعله ، وإما بقوة دلالة اللفظ على تأكد حكمه ، وإما بمعاضدة حديث آخر له ، أو أحاديث فيه - تعلو مرتبته في الاستحباب . وما يقصر عن ذلك [ ص: 202 ] كان بعده في المرتبة ، وما ورد فيه حديث لا ينتهي إلى الصحة ، فإن كان حسنا عمل به إن لم يعارضه صحيح أقوى منه . وكانت مرتبته ناقصة عن هذه المرتبة الثانية ، أعني الصحيح الذي لم يدم عليه ، أو لم يؤكد اللفظ في طلبه . وما كان ضعيفا لا يدخل في حيز الموضوع ، فإن أحدث شعارا في الدين : منع منه . وإن لم يحدث فهو محل نظر . يحتمل أن يقال : إنه مستحب لدخوله تحت العمومات المقتضية لفعل الخير ، واستحباب الصلاة . ويحتمل أن يقال : إن هذه الخصوصيات بالوقت أو بالحال والهيئة ، والفعل المخصوص : يحتاج إلى دليل خاص يقتضي استحبابه بخصوصه . وهذا أقرب . والله أعلم . وههنا تنبيهات .

الأولى : أنا حيث قلنا في الحديث الضعيف : إنه يحتمل أن يعمل به لدخوله تحت العمومات ، فشرطه : أن لا يقوم دليل على المنع منه أخص من تلك العمومات مثاله : الصلاة المذكورة في أول ليلة جمعة من رجب : لم يصح فيه الحديث ، ولا حسن . فمن أراد فعلها - إدراجا لها تحت العمومات الدالة على فضل الصلاة والتسبيحات - لم يستقم ; لأنه قد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام " وهذا أخص من العموميات الدالة على فضيلة مطلق الصلاة .

الثاني : أن هذا الاحتمال الذي قلناه - من جواز إدراجه تحت العمومات - نريد به في الفعل ، لا في الحكم باستحباب ذلك الشيء المخصوص بهيئته الخاصة ; لأن الحكم باستحبابه على تلك الهيئة الخاصة : يحتاج دليلا شرعيا عليه ولا بد ، بخلاف ما إذا فعل بناء على أنه من جملة الخيرات التي لا تختص بذلك الوقت ، ولا بتلك الهيئة . فهذا هو الذي قلنا باحتماله .

الثالث : قد منعنا إحداث ما هو شعار في الدين . ومثاله : ما أحدثته الروافض من عيد ثالث ، سموه عيد الغدير . وكذلك الاجتماع وإقامة شعاره في وقت مخصوص على شيء مخصوص ، لم يثبت شرعا . وقريب من ذلك : أن تكون العبادة من جهة الشرع مرتبة على وجه مخصوص . فيريد بعض الناس : أن يحدث فيها أمرا آخر لم يرد به الشرع ، زاعما أنه يدرجه تحت عموم . فهذا لا يستقيم ; لأن الغالب على العبادات التعبد ، ومأخذها التوقيف . وهذه الصورة : حيث لا يدل دليل على كراهة ذلك المحدث أو منعه . فأما إذا دل فهو أقوى في [ ص: 203 ] المنع وأظهر من الأول . ولعل مثال ذلك ، ما ورد في رفع اليدين في القنوت . فإنه قد صح رفع اليد في الدعاء مطلقا . فقال بعض الفقهاء : يرفع اليد في القنوت ; لأنه دعاء . فيندرج تحت الدليل المقتضي لاستحباب رفع اليد في الدعاء . وقال غيره : يكره ; لأن الغالب على هيئة العبادة التعبد والتوقيف . والصلاة تصان عن زيادة عمل غير مشروع فيها . فإذا لم يثبت الحديث في رفع اليد في القنوت : كان الدليل الدال على صيانة الصلاة عن العمل الذي لم يشرع : أخص من الدليل الدال على رفع اليد في الدعاء .

الرابع : ما ذكرناه من المنع : فتارة يكون منع تحريم ، وتارة منع كراهة . ولعل ذلك يختلف بحسب ما يفهم من نفس الشرع من التشديد في الابتداع بالنسبة إلى ذلك الجنس أو التخفيف . ألا ترى أنا إذا نظرنا إلى البدع المتعلقة بأمور الدنيا : لم تساو البدع المتعلقة بأمور الأحكام الفرعية . ولعلها - أعني البدع المتعلقة بأمور الدنيا - لا تكره أصلا . بل كثير منها يجزم فيه بعدم الكراهة . وإذا نظرنا إلى البدع المتعلقة بالأحكام الفرعية : لم تكن مساوية للبدع المتعلقة بأصول العقائد .

فهذا ما أمكن ذكره في هذا الموضوع ، مع كونه من المشكلات القوية ، لعدم الضبط فيه بقوانين تقدم ذكرها للسابقين . وقد تباين الناس في هذا الباب تباينا شديدا ، حتى بلغني : أن بعض المالكية مر في ليلة من إحدى ليلتي الرغائب - أعني التي في رجب ، أو التي في شعبان - بقوم يصلونها ، وقوم عاكفين على محرم ، أو ما يشبهه ، أو ما يقاربه . فحسن حال العاكفين على المحرم على حال المصلين لتلك الصلاة . وعلل ذلك بأن العاكفين على المحرم عالمون بارتكاب المعصية ، فيرجى لهم الاستغفار والتوبة ، والمصلون لتلك الصلاة - مع امتناعها عنده - معتقدون أنهم في طاعة . فلا يتوبون ولا يستغفرون .

والتباين في هذا يرجع إلى الحرف الذي ذكرناه . وهو إدراج الشيء المخصوص تحت العمومات ، أو طلب دليل خاص على ذلك الشيء الخاص . وميل المالكية إلى هذا الثاني . وقد ورد عن السلف الصالح ما يؤيده في مواضع ألا ترى أن ابن عمر رضي الله عنهما قال في صلاة [ ص: 204 ] الضحى " إنها بدعة " ; لأنه لم يثبت عنده فيها دليل . ولم ير إدراجها تحت عمومات الصلاة لتخصيصها بالوقت المخصوص . وكذلك قال في القنوت الذي كان يفعله الناس في عصره " إنه بدعة " ولم ير إدراجه تحت عمومات الدعاء . وكذلك ما روى الترمذي من قول عبد الله بن مغفل لابنه في الجهر بالبسملة " إياك والحدث " ولم ير إدراجه تحت دليل عام وكذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه الطبراني في معجمه بسنده عن قيس بن أبي حازم قال " ذكر لابن مسعود قاص يجلس بالليل ، ويقول للناس : قولوا كذا ، وقولوا كذا . فقال : إذا رأيتموه فأخبروني . قال : فأخبروه . فأتاه ابن مسعود متقنعا . فقال : من عرفني فقد عرفني . ومن لم يعرفني فأنا عبد الله بن مسعود . تعلمون أنكم لأهدى من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، يعني أو إنكم لمتعلقون بذنب ضلالة " وفي رواية " لقد جئتم ببدعة ظلماء ، أو لقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما " فهذا ابن مسعود أنكر هذا الفعل ، مع إمكان إدراجه تحت عموم فضيلة الذكر . على أن ما حكيناه في القنوت والجهر بالبسملة من باب الزيادة في العبادات .

الخامس : ذكر المصنف حديث ابن عمر في باب صلاة الجماعة . ولا تظهر له مناسبة ، فإن كان أراد : أن قول ابن عمر " صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " معناه : أنه اجتمع معه في الصلاة . فليست الدلالة على ذلك قوية . فإن المعية مطلقا أعم من المعية في الصلاة . وإن كان محتملا .

ومما يقتضي أنه لم يرد ذلك : أنه أورد عقيبه حديث عائشة رضي الله عنها : أنها قالت { لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر } وفي لفظ لمسلم : { ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها } وهذا لا تعلق له بصلاة الجماعة .

62 - الحديث السادس : وهو حديث عائشة رضي الله عنها المقدم الذكر . فيه دليل على تأكد ركعتي الفجر ، وعلو مرتبتهما في الفضيلة . وقد اختلف أصحاب مالك . أعني في قوله " إنهما سنة أو فضيلة " بعد اصطلاحهم على الفرق [ ص: 205 ] بين السنة والفضيلة . وذكر بعض متأخريهم قانونا في ذلك . وهو أن ما واظب صلى الله عليه وسلم عليه ، مظهرا له في جماعة ، فهو سنة . وما لم يواظب عليه ، وعده في نوافل الخير ، فهو فضيلة . وما واظب عليه ، ولم يظهره - وهذا مثل ركعتي الفجر - ففيه قولان :

أحدهما : أنه سنة .

والثاني : أنه فضيلة .

واعلم أن هذا إن كان راجعا إلى الاصطلاح : فالأمر فيه قريب . فإن لكل أحد أن يصطلح في التسميات على وضع يراه . وإن كان راجعا إلى اختلاف في معنى . فقد ثبت في هذا الحديث تأكد أمر ركعتي الفجر بالمواظبة عليهما . ومقتضاه : تأكد استحبابهما . فليقل به . ولا حرج على من يسميها سنة ، وإن أريد : أنهما مع تأكدهما أخفض رتبة مما واظب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم مظهرا له في الجماعة ، فلا شك أن رتب الفضائل تختلف .

فإن قال قائل : إنما سمي بالسنة أعلاها رتبة : رجع ذلك إلى الاصطلاح . والله أعلم . .

التالي السابق


الخدمات العلمية