إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
68 - الحديث الثاني : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال { بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت ، فقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 214 ] قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل القبلة ، فاستقبلوها . وكانت وجوههم إلى الشام ، فاستداروا إلى الكعبة } .


يتعلق بهذا الحديث مسائل أصولية وفروعية .

نذكر منها ما يحضرنا الآن . أما الأصولية : فالمسألة الأولى منها : قبول خبر الواحد . وعادة الصحابة في ذلك : اعتداد بعضهم بنقل بعض . وليس المقصود في هذا : أن تثبت قبول خبر الواحد بهذا الخبر الذي هو خبر واحد . فإن ذلك من إثبات الشيء بنفسه . وإنما المقصود بذلك : التنبيه على مثال من أمثلة قبولهم لخبر الواحد ، ليضم إليه أمثال لا تحصى . فيثبت بالمجموع القطع بقبولهم لخبر الواحد .

المسألة الثانية : ردوا هذه المسألة إلى أن نسخ الكتاب والسنة المتواترة . هل يجوز بخبر الواحد أم لا ؟ منعه الأكثرون ; لأن المقطوع لا يزال بالمظنون . ونقل عن الظاهرية جوازه . واستدلوا للجواز بهذا الحديث . ووجه الدليل : أنهم عملوا بخبر الواحد . ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم .

وفي هذا الاستدلال عندي مناقشة ونظر . فإن المسألة مفروضة في نسخ الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد . ويمتنع عادة أن يكون أهل قباء - مع قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وانثيالهم له ، وتيسر مراجعتهم له - أن يكون مستندهم في الصلاة إلى بيت المقدس خبرا عنه صلى الله عليه وسلم مع طول المدة . وهي ستة عشر شهرا ، من غير مشاهدة لفعله ، أو مشافهة من قوله . ولو سلمت أن ذلك غير ممتنع في العادة ، فلا شك أنه يمكن أن يكون المستند مشاهدة فعل ، أو مشافهة قول . والمحتمل الأمرين لا يتعين حمله على أحدهما . فلا يتعين حمل استقبالهم لبيت المقدس على خبر عنه صلى الله عليه وسلم . بل يجوز أن يكون على مشاهدة . وإذا جاز انتفاء أصل الخبر جاز انتفاء خبر المتواتر ; لأن انتفاء المطلق يلزم منه انتفاء قيوده . فإذا جاز انتفاء خبر التواتر لم يلزم أن يكون الدليل منصوبا في المسألة المفروضة [ ص: 215 ] فإن قلت : الاعتراض على ما ذكرته من وجهين :

أحدهما : أن ما ادعيت من امتناع أن يكون مستند أهل قباء مجرد الخبر من غير مشاهدة - إن صح - إنما يصح في جميعهم . أما في بعضهم : فلا يمتنع عادة أن يكون مستنده الخبر المتواتر .

الثاني : أن ما أبديته من جواز استنادهم إلى المشاهدة : يقتضي أنهم أزالوا المقطوع بالمظنون ; لأن المشاهدة طريق قطع . وإذا جاز إزالة المقطوع به بالمشاهدة جاز زوال المقطوع به بخبر التواتر بخبر الواحد . فإنهما مشتركان في زوال المقطوع بالمظنون .

قلت : أما الجواب عن الأول : فإنه إذا سلم امتناع ذلك على جميعهم . فقد انقسموا إذن إلى من يجوز أن يكون مستنده التواتر ، ومن يكون مستنده المشاهدة . فهؤلاء المستديرون لا يتعين أن يكونوا ممن استند إلى التواتر . فلا يتعين حمل الخبر عليهم .

فإن قال قائل : قوله " أهل قباء " يقتضي أن يكون بعض من استدار مستنده التواتر . فيصح الاحتجاج . قلت : لا شك في إمكان أن يكون الكل مستندهم المشاهدة . ومع هذا التجويز : لا يتعين حمل الحديث على ما ادعوه ، إلا أن يتبين أن مستند الكل أو البعض خبر التواتر . ولا سبيل إلى ذلك .

وأما الثاني : فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن المقصود التنبيه والمناقشة في الاستدلال بالحديث المذكور على المسألة المعينة . وقد تم الغرض من ذلك . وأما إثباتها بطريق القياس على المنصوص : فليس بمقصود .

الثاني : أن يكون إثبات جواز نسخ خبر الواحد للخبر المتواتر مقيسا على جواز نسخ خبر الواحد المقطوع به مشاهدة بخبر الواحد المظنون ، بجامع اشتراكهما في زوال المقطوع بالمظنون . لكنهم نصبوا الخلاف مع الظاهرية . وفي كلام بعضهم ما يدل على أن من عداهم لم يقل به . والظاهرية لا يقولون بالقياس . فلا يصح استدلالهم بهذا الخبر على المدعي . وهذا الوجه مختص بالظاهرية ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : رجعوا إلى الحديث أيضا في أن نسخ السنة بالكتاب جائز . ووجه التعلق بالحديث في ذلك : أن المخبر لهم ذكر أنه " أنزل الليلة قرآن " [ ص: 216 ] فأحال في النسخ على الكتاب . ولو لم يذكر ذلك لعلمنا أن ذلك من الكتاب . وليس التوجه إلى بيت المقدس بالكتاب . إذ لا نص في القرآن على ذلك . فهو بالسنة ويلزم من مجموع ذلك نسخ السنة بالكتاب . والمنقول عن الشافعي : خلافه .

ويعترض على هذا بوجوه بعيدة : أحدها : أن يقال : المنسوخ كان ثابتا بكتاب نسخ لفظه .

والثاني : أن يقال : النسخ كان بالسنة . ونزل الكتاب على وفقها .

الثالث : أن يجعل بيان المجمل كالملفوظ به . وقوله تعالى { أقيموا الصلاة } مجمل ، فسر بأمور : منها : التوجه إلى بيت المقدس . فيكون كالمأمور به لفظا في الكتاب .

وأجيب عن الأول والثاني : بأن مساق هذا التجويز : يفضي إلى أن لا يعلم ناسخ من منسوخ بعينه أصلا . فإن هذين الاحتمالين مطردان في كل ناسخ ومنسوخ . والحق أن هذا التجويز : ينفي القطع اليقيني بالنظر إليه ، إلا أن تحتف القرائن بنفي هذا التجويز ، كما في كون الحكم بالتحويل إلى القبلة مستندا إلى الكتاب العزيز .

وأجيب عن الثالث : بأنا لا نسلم بأن البيان كالملفوظ به في كل أحكامه .

المسألة الرابعة : اختلفوا في أن حكم الناسخ هل يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له ؟ وتعلقوا بهذا الحديث في ذلك . ووجه التعلق : أنه لو ثبت الحكم في أهل قباء قبل بلوغ الخبر إليهم ، لبطل ما فعلوه من التوجه إلى ، بيت المقدس . فيفقد شرط العبادة في بعضها فتبطل .

المسألة الخامسة : قيل فيه دليل على جواز مطلق النسخ ; لأن ما دل على جواز الأخص دل على جواز الأعم .

المسألة السادسة : قد يؤخذ منه جواز الاجتهاد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو بالقرب منه ; لأنه كان يمكن أن يقطعوا الصلاة وأن يبنوا . فرجحوا البناء . وهو محل الاجتهاد . تمت المسائل الأصولية .

وأما المسائل الفروعية : فالأولى منها : أن الوكيل إذا عزل فتصرف قبل بلوغ [ ص: 217 ] الخبر إليه : هل يصح تصرفه ، بناء على مسألة النسخ ؟ وهل يثبت حكمه قبل بلوغ الخبر ؟ وقد نوزع في هذا البناء على ذلك الأصل . ووجه قول هذا المنازع في هذا البناء على مسألة النسخ : أن النسخ خطاب تكليفي ، إما بالفعل أو بالاعتقاد . ولا تكليف إلا مع الإمكان ، ولا إمكان مع الجهل بورود الناسخ . وأما تصرف الوكيل : فمعنى ثبوت حكم العزل فيه : أنه باطل ولا استحالة في أن يعلم بعد البلوغ بطلانه قبل بلوغ الخبر . وعلى تقدير صحة هذا البناء : فالحكم هناك في مسألة الوكيل يكون مأخوذا بالقياس لا بالنص .

الثانية : إذا صلت الأمة مكشوفة الرأس ، ثم علمت بالعتق في أثناء الصلاة : هل تقطع الصلاة أم لا ؟ فمن أثبت الحكم قبل بلوغ العلم إليها قال بفساد ما فعلت فألزمها القطع . ومن لم يثبت ذلك لم يلزمها القطع ، إلا أن يتراخى سترها لرأسها وهذا أيضا مثل الأول ، وأنه بالقياس .

الثالثة : قيل : فيه دليل على جواز تنبيه من ليس في الصلاة لمن هو فيها . وأن يفتح عليه . كذا ذكره القاضي عياض رحمه الله وفي استدلاله على جواز أن يفتح عليه مطلقا نظر ; لأن هذا المخبر عن تحويل القبلة مخبر عن واجب ، أو آمر بترك ممنوع . ومن يفتح على غيره ليس كذلك مطلقا . فلا يساويه ، ولا يلحق به . هذا إذا كان الفتح في غير الفاتحة .

الرابعة : قيل : فيه دليل على جواز الاجتهاد في القبلة ، ومراعاة السمت ; لأنهم استداروا إلى جهة الكعبة لأول وهلة في الصلاة قبل قطعهم على موضع عينها .

الخامسة : قد يؤخذ منه أن من صلى إلى غير القبلة بالاجتهاد ، ثم تبين له الخطأ : أنه لا يلزمه الإعادة ; لأنه فعل ما وجب عليه في ظنه ، مع مخالفة الحكم في نفس الأمر ، كما أن أهل قباء فعلوا ما وجب عليهم عند ظنهم بقاء الأمر . ولم يفسد فعلهم ، ولا أمروا بالإعادة .

السادسة : قال الطحاوي : في هذا دليل على أن من لم يعلم بفرض الله تعالى ولم تبلغه الدعوة ، ولا أمكنه استعلام ذلك من غيره . فالفرض غير لازم له . والحجة غير قائمة عليه . وركب بعض الناس على هذا : مسألة من أسلم في دار [ ص: 218 ] الحرب ، أو أطراف بلاد الإسلام ، حيث لا يجد من يستعلمه عن شرائع الإسلام : هل يجب عليه أن يقضي ما مر من صلاة وصيام ، لم يعلم وجوبهما ؟ وحكي عن مالك والشافعي إلزامه ذلك - أو ما هذا معناه - لقدرته على الاستعلام والبحث ، والخروج لذلك . وهذا أيضا يرجع إلى القياس . والله أعلم .

وقوله في الحديث " وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها " يروى بكسر الباء على الأمر ، ويروى " فاستقبلوها " بفتحها على الخبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية