إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
77 - الحديث الثاني - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنما جعل الإمام ليؤتم به . فلا تختلفوا عليه . فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا . وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد . وإذا سجد فاسجدوا . وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون } .



78 - وما في معناه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك ، صلى جالسا ، وصلى وراءه قوم قياما ، فأشار إليهم : أن اجلسوا لما انصرف قال إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده فقولوا : ربنا لك الحمد ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون } . وهذا الحديث الثالث .


[ ص: 226 ] الكلام على حديث أبي هريرة من وجوه :

الأول : اختلفوا في جواز صلاة المفترض خلف المتنفل . فمنعها مالك وأبو حنيفة وغيرهما . واستدل لهم بهذا الحديث . وجعل اختلاف النيات داخلا تحت قوله " فلا تختلفوا عليه " وأجاز ذلك الشافعي وغيره . والحديث محمول في هذا المذهب على الاختلاف في الأفعال الظاهرة .

الثاني : الفاء في قوله " فإذا ركع فاركعوا " إلخ تدل على أن أفعال المأموم تكون بعد أفعال الإمام ; لأن الفاء تقتضي التعقيب . وقد مضى الكلام في المنع من السبق . وقال الفقهاء : المساواة في هذه الأشياء : مكروهة .

الثالث قوله " وإذا قال سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد " يستدل به من يقول إن التسميع مختص بالإمام . فإن قوله " ربنا ولك الحمد " مختص بالمأموم . وهو اختيار مالك رحمه الله .

الرابع : اختلفوا في إثبات الواو وإسقاطها من قوله " ولك الحمد " بحسب اختلاف الروايات وهذا اختلاف في الاختيار ، لا في الجواز . ويرجع إثباتها بأنه يدل على زيادة معنى ; لأنه يكون التقدير : ربنا استجب لنا - أو ما قارب ذلك - ولك الحمد . فيكون الكلام مشتملا على معنى الدعاء ، ومعنى الخبر . وإذا قيل بإسقاط الواو دل على أحد هذين .

الخامس : قوله " وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " أخذ به قوم ، فأجازوا الجلوس خلف الإمام القاعد للضرورة ، مع قدرة المأمومين على القيام . وكأنهم جعلوا متابعة الإمام عذرا في إسقاط القيام . ومنعه أكثر الفقهاء المشهورين .

والمانعون اختلفوا في الجواب عن هذا الحديث على طرق .

الطريق الأول : ادعاء كونه منسوخا ، وناسخه : صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس في مرض موته قاعدا . وهم قيام ، وأبو بكر قائم يعلمهم بأفعال صلاته . وهذا بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الإمام ، وأن أبا بكر كان مأموما في تلك الصلاة وقد وقع في ذلك خلاف . وموضع الترجيح : هو الكلام على ذلك الحديث . قال القاضي عياض ، قالوا : ثم نسخت إمامة القاعد جملة بقوله " لا يؤمن أحد بعدي جالسا " وبفعل [ ص: 227 ] الخلفاء بعده ، وأنه لم يؤم أحد منهم جالسا ، وإن كان النسخ لا يمكن بعد النبي صلى الله عليه وسلم . فمثابرتهم على ذلك تشهد بصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده ، وتقوي لين هذا الحديث .

وأقول : هذا ضعيف . أما الحديث في { لا يؤمن أحد بعدي جالسا } فحديث رواه الدارقطني عن جابر بن زيد الجعفي - بضم الجيم وسكون العين - عن الشعبي - بفتح الشين - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يؤمن أحد بعدي جالسا } وهذا مرسل . وجابر بن زيد قالوا فيه : متروك . ورواه مجالد عن الشعبي وقد استضعف مجالد .

وأما الاستدلال بترك الخلفاء الإمامة عن قعود : فأضعف . فإن ترك الشيء لا يدل على تحريمه . فلعلهم اكتفوا بالاستنابة للقادرين ، وإن كان الاتفاق قد حصل على أن صلاة القاعد بالقائم مرجوحة ، وأن الأولى تركها . فذلك كاف في بيان سبب تركهم الإمامة من قعود . وقولهم " إنه يشهد بصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده " ليس كذلك ، لما بيناه من أن الترك للفعل لا يدل على تحريمه .

الطريق الثاني : في الجواب عن هذا الحديث : للمانعين ادعاء أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقد عرف أن الأصل عدمه حتى يدل عليه دليل .

الطريق الثالث : التأويل بأن يحمل قوله " وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا " على أنه : إذا كان في حالة الجلوس فاجلسوا ، ولا تخالفوه بالقيام . وكذلك إذا صلى قائما فصلوا قياما . أي إذا كان في حال القيام فقوموا ولا تخالفوه بالقعود . وكذلك في قوله " إذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا " وهذا بعيد . وقد ورد في الأحاديث وطرقها : ما ينفيه ، مثل ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها الآتي " أنه أشار إليهم : أن اجلسوا " ومنه تعليل ذلك بموافقة الأعاجم في القيام على ملوكهم . وسياق الحديث في الجملة يمنع من سبق الفهم إلى هذا التأويل .

والكلام على حديث عائشة مثل الكلام على حديث أبي هريرة ، وما فيه من الزيادة قد حصل التنبيه عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية