إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
85 - الحديث الرابع : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة ، وإذا كبر للركوع ، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ، وقال : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد . وكان لا يفعل ذلك في السجود } .


اختلف الفقهاء في رفع اليدين في الصلاة على مذاهب متعددة . فالشافعي قال بالرفع في هذه الأماكن الثلاثة . أعني في افتتاح الصلاة والركوع والرفع من الركوع . وحجته : هذا الحديث . وهو من أقوى الأحاديث سندا . وأبو حنيفة لا يرى الرفع في غير الافتتاح . وهو المشهور عند أصحاب مالك . والمعمول به عند المتأخرين منهم . واقتصر الشافعي على الرفع في هذه الأماكن الثلاثة لهذا الحديث . وقد ثبت الرفع عند القيام من الركعتين . وقياس نظره : أن يسن الرفع في ذلك المكان أيضا ; لأنه لما قال بإثبات الرفع في الركوع والرفع منه - لكونه زائدا على من روى الرفع عند التكبير فقط - وجب أيضا أن يثبت الرفع عند القيام من [ ص: 239 ] الركعتين . فإنه زائد على من أثبت الرفع في هذه الأماكن الثلاث فقط . والحجة واحدة في الموضعين :

وأول راض سيرة من يسيرها

.

والصواب - والله أعلم - استحباب الرفع عند القيام من الركعتين ، لثبوت الحديث فيه . وأما كونه مذهبا للشافعي - لأنه قال : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، أو ما هذا معناه - ففي ذلك نظر . ولما ظهر لبعض الفضلاء المتأخرين من المالكية قوة الرفع في الأماكن الثلاثة على حديث ابن عمر : اعتذر عن تركه في بلاده فقال : وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه فيهما - أي في الركوع والرفع منه - ثبوتا لا مرد له صحة ، فلا وجه للعدول عنه ، إلا أن في بلادنا هذه يستحب للعالم تركه ; لأنه إن فعله نسب إلى البدعة ، وتأذى في عرضه ، وربما تعدت الأذية إلى بدنه . فوقاية العرض والبدن بترك سنة : واجب في الدين .

وقوله " حذو منكبيه " هو اختيار الشافعي في منتهى الرفع ، وأبو حنيفة اختار الرفع إلى حذو الأذنين وفيه حديث آخر يدل عليه ، ورجح مذهب الشافعي بقوة السند ، لحديث ابن عمر ، وبكثرة الرواة لهذا المعنى ، فروي عن الشافعي أنه قال : وروى هذا الخبر بضعة عشر نفسا من الصحابة ، وربما سلك طريق الجمع . فحمل خبر ابن عمر على أنه رفع يديه حتى حاذى كفاه منكبيه . والخبر الآخر : على أنه رفع يديه حتى حاذت أطراف أصابعه أذنيه . وقيل : إنه رويت رواية من حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، ويحاذي بإبهاميه أذنيه } .

واختلف أصحاب الشافعي متى يبتدئ التكبير ؟ فمنهم من قال : يبتدئ التكبير مع ابتداء رفع اليدين ، ويتم التكبير مع انتهاء إرسال اليدين . ونسب هذا إلى رواية وائل بن حجر . وقد نقل في رواية وائل بن حجر " استقبل النبي صلى الله عليه وسلم وكبر فرفع يديه حتى حاذى بهما أذنيه " وهذه الرواية لا تدل على ما نسب إلى رواية وائل بن حجر ، وفي رواية لأبي داود فيها بعض مجهولين ، لفظها أنه { رأى رسول [ ص: 240 ] الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبير } وهذا أقرب في الدلالة . وفي رواية أخرى لأبي داود - فيها انقطاع - أنه { أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قام إلى الصلاة رفع يديه ، حتى كانتا بحيال منكبيه ، وحاذى بإبهاميه أذنيه . ثم كبر } وفي رواية أخرى أجود من هاتين { وكان إذا كبر رفع يديه } وهذه محتملة ; لأنا إذا قلنا : فلان فعل : احتمل أن يراد شرع في الفعل . ويحتمل : أن يراد فرغ منه . ويحتمل أن يراد : جملة الفعل . ومن أصحاب الشافعي من قال : يرفع اليدين غير مكبر . ثم يبتدئ التكبير مع ابتداء الإرسال ، ثم يتم التكبير مع تمام الإرسال . وينسب هذا إلى رواية أبي حميد الساعدي . ومنهم من قال : يرفع اليدين غير مكبر ، ثم يكبر ثم يرسل اليدين بعد ذلك . وينسب هذا إلى رواية ابن عمر .

وهذه الرواية التي ذكرها المصنف ظاهرها عندي مخالف لما نسب إلى رواية ابن عمر ، فإنه جعل افتتاح الصلاة ظرفا لرفع اليدين . فإما أن يحمل الافتتاح على أول جزء من التكبير ، فينبغي أن يكون رفع اليدين معه . وصاحب هذا القول يقول : يرفع اليدين غير مكبر . وإما أن يحمل الافتتاح على التكبير كله . فأيضا لا يقتضي أن يرفع اليدين غير مكبر .

وقوله { وقال سمع الله لمن حمده ، ربنا لك الحمد } يقتضي جمع الإمام بين الأمرين . فإن الظاهر : أن ابن عمر إنما حكى وروى عن حالة الإمامة . فإنها الحالة الغالبة على النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها نادر جدا . وإن حمل اللفظ على العموم دخل فيه المنفرد والإمام . وقد فسر قوله " سمع الله لمن حمده " أي استجاب الله دعاء من حمده ، وقد تقدم الكلام في إثبات الواو وحذفها .

وقوله " وكان لا يفعل ذلك في السجود " يعني الرفع . وكأنه يريد بذلك عند ابتداء السجود ، أو عند الرفع منه . وحمله على الابتداء أقرب . وأكثر الفقهاء على القول بهذا الحديث ، وأنه لا يسن رفع اليدين عند السجود . وخالف بعضهم في ذلك . وقال : يرفع ، لحديث ورد فيه . وهذا مقتضى ما ذكرناه في القاعدة . وهو القول بإثبات الزيادة وتقديمها على من نفاها أو سكت عنها . والذين تركوا الرفع في السجود سلكوا مسلك الترجيح لرواية ابن عمر في ترك الرفع في السجود ، والترجيح إنما يكون عند التعارض ، ولا تعارض بين رواية من أثبت الزيادة وبين [ ص: 241 ] من نفاها ، أو سكت عنها ، إلا أن يكون النفي والإثبات منحصرين في جهة واحدة . فإن ادعي ذلك في حديث ابن عمر والحديث الآخر ، وثبت اتحاد الوقتين : فذاك

التالي السابق


الخدمات العلمية