إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
86 - الحديث الخامس : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين ، والركبتين ، وأطراف القدمين } .


الكلام عليه من وجوه :

الأول : أنه صلى الله عليه وسلم سمى كل واحد من هذه الأعضاء عظما باعتبار الجملة ، وإن اشتمل كل واحد منها على عظام ويحتمل أن يكون ذلك من باب تسمية الجملة باسم بعضها .

الثاني : ظاهر الحديث يدل على وجوب السجود على هذه الأعضاء ; لأن الأمر للوجوب . والواجب عند الشافعي منها الجبهة ، لم يتردد قوله فيه . واختلف قوله في اليدين والركبتين والقدمين . وهذا الحديث يدل للوجوب . وقد رجح بعض أصحابه عدم الوجوب . ولم أرهم عارضوا هذا بدليل قوي أقوى من دلالته فإنه استدل لعدم الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رفاعة { ثم يسجد فيمكن جبهته } وهذا غايته : أن تكون دلالته دلالة مفهوم وهو مفهوم لقب ، أو غاية . والمنطوق الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء : مقدم عليه . وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم ، كما مر لنا في قوله صلى الله عليه وسلم { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } من قوله { جعلت لنا الأرض مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا } فإنه ثمة يعمل بذلك العموم من وجه ، إذا قدمنا دلالة المفهوم . وههنا إذا قدمنا دلالة المفهوم : أسقطنا الدليل الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء - أعني اليدين والركبتين والقدمين - مع تناول اللفظ لها بخصوصها .

وأضعف من هذا : ما استدل به على عدم الوجوب من قوله صلى الله عليه وسلم { سجد [ ص: 242 ] وجهي للذي خلقه } قالوا : فأضاف السجود إلى الوجه . فإنه لا يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه . وأضعف من هذا : الاستدلال على عدم الوجوب بأن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة ، فإن هذا الحديث يدل على إثبات زيادة على المسمى ، فلا تترك .

وأضعف من هذا : المعارضة بقياس شبهي ، ليس بقوي ، مثل أن يقال : أعضاء لا يجب كشفها . فلا يجب وضعها كغيرها من الأعضاء ، سوى الجبهة . وقد رجح المحاملي من أصحاب الشافعي القول بالوجوب . وهو أحسن عندنا من قول من رجح عدم الوجوب . وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن سجد على الأنف وحده كفاه ، وهو قول في مذهب مالك وأصحابه . وذهب بعض العلماء إلى أن الواجب السجود على الجبهة والأنف معا . وهو قول في مذهب مالك أيضا . ويحتج لهذا المذهب بحديث ابن عباس هذا . فإن في بعض طرقه { الجبهة والأنف معا } وفي هذه الطريق التي ذكرها المصنف { الجبهة ، وأشار بيده إلى أنفه } فقيل : معنى ذلك : أنهما جعلا كالعضو الواحد ويكون الأنف كالتبع للجبهة .

واستدل على هذا بوجهين :

أحدهما : أنه لو كان كعضو منفرد عن الجبهة حكما ، لكانت الأعضاء المأمور بالسجود عليها ثمانية ، لا سبعة . فلا يطابق العدد المذكور في أول الحديث .

الثاني : أنه قد اختلفت العبارة مع الإشارة إلى الأنف . فإذا جعلا كعضو واحد أمكن أن تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر . فتطابق الإشارة العبارة وربما استنتج من هذا : أنه إذا سجد على الأنف وحده أجزأه ; لأنهما إذا جعلا كعضو واحد كان السجود على الأنف كالسجود على بعض الجبهة فيجزئ .

والحق أن مثل هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة والأنف ، لكونهما داخلين تحت الأمر ، وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد من حيث العدد المذكور . فذلك في التسمية والعبارة ، لا في الحكم الذي دل عليه الأمر . وأيضا : فإن الإشارة قد لا تعين المشار إليه . فإنها إنما تتعلق بالجبهة . فإذا تقارب ما في الجهة أمكن أن لا يتعين المشار إليه يقينا . وأما اللفظ : فإنه معين لما [ ص: 243 ] وضع له . فتقديمه أولى .

الثالث : المراد باليدين - هاهنا - الكفان . وقد اعتقد قوم أن مطلق لفظ " اليدين " يحمل عليهما ، كما في قوله تعالى { فاقطعوا أيديهما } واستنتجوا من ذلك : أن التيمم إلى الكوعين . وعلى كل تقدير : فسواء صح هذا أم لا ، فالمراد ههنا الكفان ; لأنا لو حملناه على بقية الذراع : لدخل تحت المنهي عنه من افتراش الكلب أو السبع . ثم تصرف الفقهاء بعد ذلك . فقال بعض مصنفي الشافعية : إن المراد الراحة ، أو الأصابع . ولا يشترط الجمع بينهما ، بل يكفي أحدهما . ولو سجد على ظهر الكف لم يجزه . هذا معنى ما قال .

الرابع : قد يستدل بهذا على أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء . فإن مسمى السجود يحصل بالوضع . فمن وضعها فقد أتى بما أمر به . فوجب أن يخرج عن العهدة . وهذا يلتفت إلى بحث أصولي . وهو أن الإجزاء في مثل هذا هل هو راجع إلى اللفظ ، أم إلى أن الأصل عدم وجوب الزائد على الملفوظ به ، مضموما إلى فعل المأمور به ؟ .

وحاصله : أن فعل المأمور به : هل هو علة الإجزاء ، أو جزء علة الإجزاء ؟ ولم يختلف في أن كشف الركبتين غير واجب .

وكذلك القدمان . أما الأول : فلما يحذر فيه من كشف العورة . وأما الثاني : وهو عدم كشف القدمين فعليه دليل لطيف جدا ; لأن الشارع وقت المسح على الخف بمدة تقع فيها الصلاة مع الخف . فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخفين . وانتقضت الطهارة ، وبطلت الصلاة . وهذا باطل . ومن نازع في انتقاض الطهارة بنزع الخف ، فيدل عليه بحديث صفوان الذي فيه { أمرنا أن لا ننزع خفافنا } - إلى آخره " .

فتقول : لو وجب كشف القدمين لناقضه إباحة عدم النزع في هذه المدة التي دل عليها لفظة " أمرنا " المحمولة على الإباحة . وأما اليدان . فللشافعي تردد في وجوب كشفهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية