إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
89 - الحديث الثامن : عن { البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه ، فركعته فاعتداله بعد ركوعه ، فسجدته ، فجلسته بين السجدتين ، فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف : قريبا من السواء . } وفي رواية البخاري { ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء } .


قوله " قريبا من السواء " قد يقتضي : إما تطويل ما العادة فيه التخفيف ، أو تخفيف ما العادة فيه التطويل ، إذا كان ثم عادة متقدمة . وقد ورد ما يقتضي التطويل في القيام ، كقراءة ما بين الستين إلى المائة . وكما ورد في التطويل في قراءة الظهر بحيث يذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ، ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطولها . وقد تكلم الفقهاء في الأركان الطويلة والقصيرة . واختلفوا في الرفع من الركوع : هل هو ركن طويل أو قصير ؟ ورجح أصحاب الشافعي : أنه ركن قصير . وفائدة الخلاف فيه : أن تطويله يقطع الموالاة الواجبة في الصلاة . ومن هذا قال بعض أصحاب الشافعي : إنه إذا طوله بطلت الصلاة ، وقال بعضهم : لا تبطل حتى ينقل إليه ركنا ، كقراءة الفاتحة أو التشهد .

وهذا الحديث يدل على أن الرفع من الركوع ركن طويل ; لأنه لا يتأتى أن [ ص: 247 ] تكون القراءة في الصلاة - فرضها ونفلها - بمقدار ما إذا فعل في الرفع من الركوع كان قصيرا . وهذا الذي ذكر في الحديث - من استواء الصلاة - ذهب بعضهم إلى أنه الفعل المتأخر بعد ذلك التطويل . وقد ورد في بعض الأحاديث { وكانت صلاته بعد تخفيفا } .

والذي ذكره المصنف عن رواية البخاري ، وهو قوله " ما خلا القيام والقعود - إلى آخره " وذهب بعضهم إلى تصحيح هذه الرواية ، دون الرواية التي ذكر فيها القيام . ونسب رواية ذكر القيام إلى الوهم . وهذا بعيد عندنا ; لأن توهيم الراوي الثقة على خلاف الأصل - لا سيما إذا لم يدل دليل قوي - لا يمكن الجمع بينه وبين الزيادة ، على كونها وهما وليس هذا من باب العموم والخصوص ، حتى يحمل العام على الخاص فيما عدا القيام . فإنه قد صرح في حديث البراء في تلك الرواية بذكر القيام .

ويمكن الجمع بينهما بأن يكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كان مختلفا . فتارة يستوي الجميع . وتارة يستوي ما عدا القيام والقعود وليس في هذا إلا أحد أمرين : إما الخروج عما تقضيه لفظة " كان " - إن كانت وردت - من المداومة ، أو الأكثرية . وإما أن يقال : الحديث واحد ، اختلفت رواته عن واحد . فيقتضي ذلك التعارض . ولعل هذا هو السبب الذي دعا من ذكرنا عنه أنه نسب تلك الرواية إلى الوهم ممن قاله .

وهذا الوجه الثاني : أعني اتحاد الرواية - أقوى من الأولى في وقوع التعارض . وإن احتمل غير ذلك على الطريقة الفقهية .

ولا يقال : إذا وقع التعارض فالذي أثبت التطويل في القيام لا يعارضه من نفاه . فإن المثبت مقدم على النافي .

لأنا نقول ، الرواية الأخرى تقتضي بنصها عدم التطويل في القيام ، وخروج تلك الحالة - أعني حالة القيام والقعود - عن بقية حالات أركان الصلاة . فيكون النفي والإثبات محصورين في محل واحد . والنفي والإثبات إذا انحصرا في محل واحد تعارضا ، إلا أن يقال باختلاف هذه الأحوال بالنسبة إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم . فلا [ ص: 248 ] يبقى فيها انحصار في محل واحد بالنسبة إلى الصلاة . ولا يعترض على هذا إلا بما قدمناه من مقتضى لفظة " كان " إن وجدت في حديث أو كون الحديث واحدا عن مخرج واحد اختلف فيه فلينظر ذلك في الروايات ويحقق الاتحاد أو الاختلاف في مخرج الحديث ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية