إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
91 - الحديث التاسع : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : { ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة . ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم } .



92 - الحديث العاشر : عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي البصري - قال { جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا ، فقال : إني لأصلي بكم ، وما أريد الصلاة ، أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، فقلت لأبي قلابة : كيف كان يصلي ؟ فقال : مثل صلاة شيخنا هذا ، وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض } .


أراد بشيخهم : أبا بريد - عمرو بن سلمة الجرمي ويقال أبو يزيد .

حديث أنس بن مالك : يدل على طلب أمرين في الصلاة : التخفيف في حق الإمام ، مع الإتمام وعدم التقصير . وذلك هو الوسط العدل . والميل إلى أحد [ ص: 250 ] الطرفين خروج عنه أما التطويل في حق الإمام : فإضرار بالمأمومين . وقد تقدم ذلك والتصريح بعلته . وأما التقصير عن الإتمام : فبخس لحق العبادة . ولا يراد بالتقصير هاهنا : ترك الواجبات . فإن ذلك مفسد موجب للنقص الذي يرفع حقيقة الصلاة . وإنما المراد - والله أعلم - التقصير عن المسنونات ، والتمام بفعلها .

والكلام على حديث أبي قلابة من وجوه :

أحدها : أن هذا الحديث مما انفرد به البخاري عن مسلم ، وليس من شرط هذا الكتاب ، وأيضا فإن البخاري خرجه من طرق :

منها رواية وهيب ، وأكثر ألفاظ هذه الرواية التي ذكرها المصنف هي رواية وهيب . وفي آخرها في كتاب البخاري " وإذا رفع - رفع رأسه من السجدة الثانية - جلس ، واعتمد على الأرض ثم قام " وفي رواية خالد عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث الليثي أنه { رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، فإذا كان في وتر من صلاته : لم ينهض حتى يستوي قاعدا } .

الثاني : مالك بن الحويرث ، ويقال : ابن الحارث ، ويقال : حويرثة . والأول أصح - أحد من سكن البصرة من الصحابة ، مات سنة أربع وتسعين . ويكنى أبا سليمان .

وشيخهم المذكور في الحديث هو أبو بريد - بضم الباء الموحدة وفتح الراء - عمرو بن سلمة - بكسر اللام - الجرمي - بفتح الجيم وسكون الراء المهملة .

الثالث : قول " إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة " أي أصلي صلاة التعليم ، لا أريد الصلاة لغير ذلك . ففيه دليل على جواز مثل ذلك ، وأنه ليس من باب التشريك في العمل .

الرابع : قوله " أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي " . يدل على البيان بالفعل . وأنه يجري مجرى البيان بالقول ، وإن كان البيان بالقول أقوى في الدلالة على آحاد الأفعال إذا كان القول ناصا على كل فرد منها .

الخامس : اختلف الفقهاء في جلسة الاستراحة عقيب الفراغ من الركعة الأولى والثالثة . فقال بها الشافعي في قول ، وكذا غيره من أصحاب الحديث . وأباها مالك وأبو حنيفة وغيرهما . وهذا الحديث يستدل به القائلون بها ، وهو ظاهر [ ص: 251 ] في ذلك . وعذر الآخرين عنه : أنه يحمل على أنها بسبب الضعف للكبر ، كما قال المغيرة بن حكيم " إنه رأى عبد الله بن عمر يرجع من سجدتين من الصلاة على صدور قدميه . فلما انصرف ذكرت ذلك له ، فقال : إنها ليست من سنة الصلاة . وإنما أفعل ذلك من أجل أني أشتكي " وفي حديث آخر غير هذا في فعل آخر لابن عمر أنه قال " إن رجلي لا تحملاني " والأفعال إذا كانت للجبلة ; أو ضرورة الخلقة لا تدخل في أنواع القرب المطلوبة . فإن تأيد هذا التأويل بقرينة تدل عليه ، مثل أن يتبين أن أفعاله السابقة حالة الكبر والضعف : لم يكن فيها هذه الجلسة ، أو يقترن فعلها بحالة الكبر ، من غير أن يدل دليل على قصد القربة . فلا بأس بهذا التأويل . وقد ترجح في علم الأصول : أن ما لم يكن من الأفعال مخصوصا بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا جاريا مجرى أفعال الجبلة ، ولا ظهر أنه بيان لمجمل ، ولا علم صفته من وجوب أو ندب أو غيره ، فإما أن يظهر فيه قصد القربة ، أو لا ، فإن ظهر : فمندوب ، وإلا فمباح . لكن لقائل أن يقول : ما وقع في الصلاة ، فالظاهر أنه من هيئتها ، لا سيما الفعل الزائد الذي تقتضي الصلاة منعه . وهذا قوي ، إلا أن تقوم القرينة على أن ذلك الفعل كان بسبب الكبر أو الضعف يظهر بتلك القرينة أن ذلك أمر جبلي . فإن قوي ذلك باستمرار عمل السلف على ترك ذلك الجلوس ، فهو زيادة في الرجحان .

التالي السابق


الخدمات العلمية