إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
97 - الحديث الأول : عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد ، فدخل رجل فصلى ، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ارجع فصل ، فإنك لم تصل . فرجع فصلى كما صلى ، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ارجع فصل ، فإنك لم تصل - ثلاثا - فقال : والذي بعثك بالحق لا أحسن غيره ، فعلمني ، فقال : إذا قمت إلى الصلاة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن [ ص: 259 ] راكعا ، ثم ارفع حتى تعتدل قائما ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا . وافعل ذلك في صلاتك كلها } .


الكلام عليه من وجوه .

الأول : فيه الرفق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عامله بالرفق فيما أمره به ، كما قال معاوية بن الحكم السلمي " فما كهرني " ووصف رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم به وكذلك قال في الأعرابي " لا تزرموه " ولم يعنفه . وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم .

وفيه تكرار رد السلام مرارا ، إذا كرره المسلم ، كما ورد في بعض طرقه ، مع الفصل القريب .

الثاني : تكرر من الفقهاء الاستدلال على وجوب ما ذكر في الحديث ، وعدم وجوب ما لم يذكر فيه . فأما وجوب ما ذكر فيه : فلتعلق الأمر به وأما عدم وجوب غيره : فليس ذلك لمجرد كون الأصل عدم الوجوب ، بل لأمر زائد على ذلك . وهو أن الموضع موضع تعليم ، وبيان للجاهل ، وتعريف لواجبات الصلاة . وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر . ويقوي مرتبة الحصر : أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ما تعلقت به الإساءة من هذا المصلي ، وما لم تتعلق به إساءته من واجبات الصلاة . وهذا يدل على أنه لم يقصر المقصود على ما وقعت فيه الإساءة فقط . فإذا تقرر هذا : فكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه - وكان مذكورا في هذا الحديث - فلنا أن نتمسك به في وجوبه . وكل موضع اختلفوا في وجوبه ، ولم يكن مذكورا في هذا الحديث قلنا أن نتمسك به في عدم وجوبه ، لكونه غير مذكور في هذا الحديث على ما تقدم ، من كونه موضع تعليم . وقد ظهرت قرينة مع ذلك على قصد ذكر الواجبات . وكل موضع اختلف في تحريمه فلنا أن نستدل بهذا الحديث على عدم تحريمه لأنه لو حرم لوجب التلبس بضده . فإن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده . ولو كان التلبس بالضد واجبا لذكر ذلك ، على ما قررناه . [ ص: 260 ] فصار من لوازم النهي : الأمر بالضد . ومن الأمر بالضد : ذكره في الحديث ، على ما قررناه . فإذا انتفى ذكره - أعني الأمر بالتلبس بالضد انتفى ملزومه . وهو الأمر بالضد . وإذا انتفى الأمر بالضد : انتفى ملزومه . وهو النهي عن ذلك الشيء . فهذه الثلاث الطرق يمكن الاستدلال بها على شيء كثير من المسائل المتعلقة بالصلاة ، إلا أن على طالب التحقيق في هذا ثلاث وظائف :

أحدها : أن يجمع طرق هذا الحديث ، ويحصي الأمور المذكورة فيه ويأخذ بالزائد فالزائد . فإن الأخذ بالزائد واجب . وثانيها : إذا قام دليل على أحد أمرين : إما عدم الوجوب ، أو الوجوب . فالواجب العمل به ، ما لم يعارضه ما هو أقوى منه . وهذا في باب النفي يجب التحرز فيه أكثر . فلينظر عند التعارض أقوى الدليلين فيعمل به . وعندنا : أنه إذا استدل على عدم وجوب شيء بعدم ذكره في الحديث ، وجاءت صيغة الأمر به في حديث آخر : فالمقدم صيغة الأمر ، وإن كان يمكن أن يقال : الحديث دليل على عدم الوجوب : وتحمل صفة الأمر على الندب لكن عندنا أن ذلك أقوى ، لأن عدم الوجوب متوقف على مقدمة أخرى .

وهو أن عدم الذكر في الرواية : يدل على عدم الذكر في نفس الأمر ، وهذه غير المقدمة التي قررناها ، وهو أن عدم الذكر يدل على عدم الوجوب ، لأن المراد ثمة أن عدم الذكر في نفس الأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على عدم الوجوب ، فإنه موضع بيان وعدم الذكر في نفس الأمر غير عدم الذكر في الرواية ، وعدم الذكر في الرواية إنما يدل على الذكر في نفس الأمر ، بطريق أن يقال : لو كان لذكر ، أو بأن الأصل عدمه ، وهذه المقدمة أضعف من دلالة الأمر على الوجوب . وأيضا فالحديث الذي فيه الأمر إثبات لزيادة ، فيعمل بها .

وهذا البحث كله بناء على إعمال صيغة الأمر في الوجوب الذي هو ظاهر فيها . والمخالف يخرجها عن حقيقتها ، بدليل عدم الذكر ، فيحتاج الناظر المحقق إلى الموازنة بين الظن المستفاد من عدم الذكر في الرواية ، وبين الظن المستفاد من كون الصيغة للوجوب . والثاني عندنا أرجح . وثالثها : أن يستمر على طريقة واحدة ، ولا يستعمل في مكان ما يتركه في [ ص: 261 ] آخر ، فيتثعلب نظره ، وأن يستعمل القوانين المعتبرة في ذلك استعمالا واحدا . فإنه قد يقع هذا الاختلاف في النظر في كلام كثير من المتناظرين .

الوجه الثالث من الكلام على الحديث : قد تقدم أنه قد يستدل - حيث يراد نفي الوجوب - بعدم الذكر في الحديث ، وقد فعلوا هذا في مسائل :

منها : أن الإقامة غير واجبة ، خلافا لمن قال بوجوبها من حيث إنها لم تذكر في الحديث . وهذا - على ما قررناه - يحتاج إلى عدم رجحان الدليل الدال على وجوبها عند الخصم ، وعلى أنها غير مذكورة في جميع طرق هذا الحديث . وقد ورد في بعض طرقه : الأمر بالإقامة فإن صح فقد عدم أحد الشرطين اللذين قررناهما .

ومنها : الاستدلال على عدم وجوب دعاء الاستفتاح حيث لم يذكر ، وقد نقل عن بعض المتأخرين ممن لم يرسخ قدمه في الفقه ، ممن ينسب إلى غير الشافعي - أن الشافعي يقول بوجوبه ، وهذا غلط قطعا . فإن لم ينقله غيره فالوهم منه . وإن نقله غيره - كالقاضي عياض رحمه الله ، ومن هو في مرتبته من الفضلاء فالوهم منهم لا منه .

ومنها : استدلال بعض المالكية به على عدم وجوب التشهد بما ذكرناه من عدم الذكر ، ولم يتعرض هذا المستدل بالسلام . لأن للحنفية أن يستدلوا به على عدم وجوب السلام بعينه ، مع أن المادة واحدة ، إلا أن يريد أن الدليل المعارض لوجوب السلام أقوى من الدليل على عدم وجوبه فلذلك تركه ، بخلاف التشهد ، فهذا يقال فيه أمران :

أحدهما : أن دليل إيجاب التشهد هو الأمر ، وهو أرجح مما ذكرناه : وبالجملة : فله أن يناظر على الفرق بين الرجحانين ، ويمهد عذره ، ويبقي النظر ثمة فيما يقال .

الثاني : أن دلالة اللفظ على الشيء لا تنفي معارضة المانع الراجح ، فإن [ ص: 262 ] الدلالة أمر يرجع إلى اللفظ ، أو إلى أمر لو جرد النظر إليه لثبت الحكم ، وذلك لا ينفي وجود المعارض . نعم لو استدل بلفظ يحتمل أمرين على السواء ، لكانت الدلالة منتفية . وقد يطلق الدليل على الدليل التام الذي يجب العمل به . وذلك يقتضي عدم وجود المعارض الراجح . والأولى : أن يستعمل في دلالة ألفاظ الكتاب والسنة الطريق الأول . ومن ادعى المعارض الراجح فعليه البيان .

الوجه الرابع من الكلام على الحديث : استدل بقوله " فكبر " على وجوب التكبير بعينه . وأبو حنيفة يخالف فيه ، ويقول : إذا أتى بما يقتضي التعظيم ، كقوله " الله أجل " أو " أعظم " كفى . وهذا نظر منه إلى المعنى ، وأن المقصود التعظيم ، فيحصل بكل ما دل عليه . وغيره اتبع اللفظ . وظاهره تعيين التكبير . ويتأيد ذلك بأن العبادات محل التعبدات . ويكثر ذلك فيها . فالاحتياط فيها الاتباع . وأيضا : فالخصوص قد يكون مطلوبا ، أعني خصوص التعظيم بلفظ " الله أكبر " وهذا لأن رتب هذه الأذكار مختلقة ، كما تدل عليه الأحاديث فقد لا يتأدى برتبة ما يقصد من أخرى ، ولا يعارض هذا : أن يكون أصل المعنى مفهوما . فقد يكون التعبد واقعا في التفصيل ، كما أنا نفهم أن المقصود من الركوع التعظيم بالخضوع ، ولو أقام مقامه خضوعا آخر لم يكتف به . ويتأيد هذا باستمرار العمل من الأمة على الدخول في الصلاة بهذه اللفظة ، أعني " الله أكبر " . وأيضا : فقد اشتهر بين أهل الأصول أن كل علة مستنبطة تعود على النص بالإبطال أو التخصيص فهي باطلة ويخرج على هذا حكم هذه المسألة . فإنه إذا استنبط من النص أن المقصود مطلق التعظيم بطل خصوص التكبير . وهذه القاعدة الأصولية قد ذكر بعضهم فيها نظرا وتفصيلا . وعلى تقدير تقريرها مطلقا يخرج ما ذكرناه .

الوجه الخامس : قوله { ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن } يدل على وجوب القراءة في الصلاة . ويستدل به من يرى أن الفاتحة غير معينة . ووجهه ظاهر ، فإنه إذا تيسر غير الفاتحة ، فقارئه يكون ممتثلا ، فيخرج عن العهدة . والذين عينوا [ ص: 263 ] الفاتحة للوجوب : وهم الفقهاء الأربعة ، إلا أن أبا حنيفة منهم - على ما نقل عنه - جعلها واجبة ، وليست بفرض على أصله في الفرق بين الواجب والفرض . اختلف من نصر مذهبهم في الجواب عن الحديث . وذكر فيه طرق :

الطريق الأول : أن يكون الدليل الدال على تعيين الفاتحة ، كقوله صلى الله عليه وسلم { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } مثلا ، مفسرا للمجمل الذي في قوله { اقرأ ما تيسر معك من القرآن } وهذا - إن أريد بالمجمل ما يريده الأصوليون به - فليس كذلك . لأن المجمل : ما لا يتضح المراد منه ، وقوله { اقرأ ما تيسر معك من القرآن } متضح أن المراد يقع امتثاله بفعل كل ما تيسر ، حتى لو لم يرد قوله صلى الله عليه وسلم { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } لاكتفينا في الامتثال بكل ما تيسر ، وإن أريد بكونه مجملا : أنه لا يتعين فرد من الأفراد ، فهذا لا يمنع من الاكتفاء بكل فرد ينطلق عليه ذلك الاسم ، كما في سائر المطلقات .

الطريق الثاني : أن يجعل قوله { اقرأ ما تيسر معك } مطلقا يقيد ، أو عاما يخصص بقوله { لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب } وهذا يرد عليه أن يقال : لا نسلم أنه مطلق من كل وجه ، بل هو مقيد بقيد التيسير الذي يقتضي التخيير في قراءة كل فرد من أفراد المتيسرات . وهذا القيد المخصوص يقابل التعيين . وإنما نظير المطلق الذي لا ينافي التعيين ، أن يقول اقرأ قرآنا . ثم يقول : اقرأ فاتحة الكتاب فإنه يحمل المطلق على المقيد حينئذ والمثال الذي يوضح ذلك : أنه لو قال لغلامه : اشتر لي لحما . ولا تشتر إلا لحم الضأن ، لم يتعارض . ولو قال : اشتر لي أي لحم شئت . ولا تشتر إلا لحم الضأن ، في وقت واحد لتعارض ، إلا أن يكون أراد بهذه العبارة ما يراد بصيغة الاستثناء . وأما دعوى التخصيص : فأبعد . لأن سياق الكلام يقتضي تيسير الأمر عليه . وإنما يقرب هذا إذا جعلت " ما " بمعنى الذي . وأريد بها شيء معين . وهو الفاتحة ، لكثرة حفظ المسلمين لها . فهي المتيسرة .

الطريق الثالث : أن يحمل قوله " ما تيسر " على ما زاد على فاتحة الكتاب ويدل على ذلك بوجهين :

أحدهما : الجمع بينه وبين دلائل إيجاب الفاتحة . [ ص: 264 ] والثاني : ما ورد في بعض رواية أبي داود { ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ } وهذه الرواية - إذا صحت - تزيل الإشكال بالكلية ، لما قررناه من أنه يؤخذ بالزائد إذا جمعت طرق الحديث . ويلزم من هذه الطريقة : إخراج صيغة الأمر عن ظاهرها عند من لا يرى وجوب زائد عن الفاتحة . وهم الأكثرون .

الوجه السادس : قوله صلى الله عليه وسلم { ثم اركع حتى تطمئن راكعا } يدل على وجوب الركوع . واستدلوا به على وجوب الطمأنينة . وهو كذلك دال عليها . ولا يتخيل ههنا ما تكلم الناس فيه ، من أن الغاية : هل تدخل في المغيا أم لا ؟ أو ما قيل من الفرق بين أن تكون من جنس المغيا أو لا . فإن الغاية ههنا - وهو الطمأنينة - وصف للركوع ، لتقييده بقوله " راكعا " ووصف الشيء معه حتى لو فرضنا أنه ركع ولم يطمئن ، بل رفع عقيب مسمى الركوع . لم يصدق عليه أنه جعل مطلق الركوع مغيا بالطمأنينة . وجاء بعض المتأخرين فأغرب جدا . وقال : ما تقريره : إن الحديث يدل على عدم وجوب الطمأنينة من حيث إن الأعرابي صلى غير مطمئن ثلاث مرات . والعبادة بدون شرطها فاسدة حرام . فلو كانت الطمأنينة واجبة لكان فعل الأعرابي فاسدا . ولو كان ذلك لم يقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه في حال فعله . وإذا تقرر بهذا التقرير عدم الوجوب : حمل الأمر في الطمأنينة على الندب ، ويحمل قوله صلى الله عليه وسلم " فإنك لم تصل " على تقدير : لم تصل صلاة كاملة . ويمكن أن يقال : إن فعل الأعرابي بمجرده لا يوصف بالحرمة عليه . لأن شرطه علمه بالحكم . فلا يكون التقرير تقريرا على محرم ، إلا أنه لا يكفي ذلك في الجواب فإنه فعل فاسد . والتقرير يدل على عدم فساده . وإلا لما كان التقرير في موضع ما يدل على الصحة . وقد يقال : إن التقرير ليس بدليل على الجواز مطلقا ، بل لا بد من انتفاء الموانع . وزيادة قبول المتعلم لما يلقى إليه ، بعد تكرار فعله ، واستجماع نفسه ، وتوجه سؤاله - مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم . لا سيما مع عدم خوف الفوات ، إما بناء على ظاهر الحال ، أو بوحي خاص .

الوجه السابع : قوله صلى الله عليه وسلم { ثم ارفع حتى تعتدل قائما } يدل على وجوب [ ص: 265 ] الرفع خلافا لمن نفاه . ويدل على وجوب الاعتدال في الرفع . وهو مذهب الشافعي في الموضعين ، وللمالكية خلاف فيهما . وقد قيل في توجيه عدم وجوب الاعتدال : أن المقصود من الرفع . الفصل . وهو يحصل . بدون الاعتدال . وهذا ضعيف . لأنا نسلم أن الفصل مقصود . ولا نسلم أنه كل المقصود . وصيغة الأمر دلت على أن الاعتدال مقصود للفصل . فلا يجوز تركها وقريب من هذا في الضعف : استدلال بعض من قال بعدم وجوب الطمأنينة بقوله تعالى { اركعوا واسجدوا } فلم يأمرنا بما زاد على ما يسمى ركوعا وسجودا . وهذا واه جدا . فإن الأمر بالركوع والسجود يخرج عنه المكلف بمسمى الركوع والسجود كما ذكر . وليس الكلام فيه . وإنما الكلام في خروجه عن عهدة الأمر الآخر . وهو الأمر بالطمأنينة . فإنه يجب امتثاله ، كما يجب امتثال الأول .

الوجه الثامن : قوله { ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا } والكلام فيه كالكلام في الركوع . وكذلك قوله { ثم ارفع حتى تطمئن جالسا } فيما يستنبط منه .

الوجه التاسع : قوله صلى الله عليه وسلم { ثم افعل ذلك في صلاتك كلها } يقتضي وجوب القراءة في جميع الركعات . وإذا ثبت أن الذي أمر به الأعرابي : هو قراءة الفاتحة : دل على وجوب قراءتها في جميع الركعات . وهو مذهب الشافعي . وفي مذهب مالك ثلاثة أقوال :

أحدها : الوجوب في كل ركعة .

والثاني : الوجوب في الأكثر .

والثالث : الوجوب في ركعة واحدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية