إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
7 - الحديث السابع : عن حمران مولى عثمان بن عفان - رضي الله عنهما { أنه رأى عثمان دعا بوضوء ، فأفرغ على يديه من إنائه ، فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ، ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ، ويديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا ، ثم قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال من توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين ، لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه }


[ ص: 82 ] " عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف . أسلم قديما . وهاجر الهجرتين . وتزوج بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم . وولي الخلافة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقتل يوم الجمعة ، لثماني عشرة خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة .

ومولاه " حمران بن أبان بن خالد كان من سبي عين التمر .

ثم تحول إلى البصرة .

احتج به الجماعة .

وكان كبيرا .

الكلام على هذا الحديث من وجوه .

أحدها : " الوضوء " بفتح الواو : اسم للماء ، وبضمها : اسم للفعل على الأكثر .

وإذا كان بفتح الواو اسما للماء - كما ذكرناه - فهل هو اسم لمطلق الماء ، أو للماء بقيد كونه متوضئا به ، أو معدا للوضوء به ؟ فيه نظر يحتاج إلى كشف .

وينبني عليه فائدة فقهية .

وهو أنه في بعض الأحاديث التي استدل بها على أن الماء المستعمل طاهر : قول جابر " فصب علي من وضوئه " فإنا إن جعلنا " الوضوء " اسما لمطلق الماء لم يكن في قوله " فصب علي من وضوئه " دليل على طهارة الماء المستعمل .

; لأنه يصير التقدير : فصب علي من مائه .

ولا يلزم أن يكون ماؤه هو الذي استعمل في أعضائه .

; لأنا نتكلم على أن " الوضوء " اسم لمطلق الماء .

وإذا لم يلزم ذلك : جاز أن يكون المراد بوضوئه : فضلة مائه الذي توضأ ببعضه ، لا ما استعمله في أعضائه .

فلا يبقى فيه دليل من جهة اللفظ على ما ذكر من طهارة الماء المستعمل .

وإن جعلنا " الوضوء " بالفتح : الماء مقيدا بالإضافة إلى الوضوء - بالضم " أعني استعماله في الأعضاء ، أو إعداده لذلك : فهاهنا يمكن أن يقال : فيه دليل .

; لأن " وضوءه " بالفتح متردد بين مائه المعد للوضوء بالضم ، وبين مائه المستعمل في الوضوء .

وحمله على الثاني أولى ; لأنه الحقيقة ، أو الأقرب إلى الحقيقة واستعماله بمعنى المعد مجاز .

والحمل على الحقيقة أو الأقرب إلى الحقيقة أولى .

[ ص: 83 ] الثاني : قوله " فأفرغ على يديه " فيه استحباب غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء في ابتداء الوضوء مطلقا .

والحديث الذي مضى يفيد استحبابه عند القيام من النوم .

وقد ذكرنا الفرق بين الحكمين ، وأن الحكم عند عدم القيام : الاستحباب ، وعند القيام : الكراهية لإدخالهما في الإناء قبل غسلهما

الثالث : قوله " على يديه " يؤخذ منه : الإفراغ عليهما معا .

وقد تبين في رواية أخرى " أنه أفرغ بيده اليمنى على اليسرى ، ثم غسلهما " .

قوله : " غسلهما " قدر مشترك بين كونه غسلهما مجموعتين ، أو مفترقتين .

والفقهاء اختلفوا أيهما أفضل ؟ .

الرابع : قوله " ثلاث مرات " مبين لما أهمل من ذكر العدد في حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة المتقدم الذكر في قوله " إذا استيقظ أحدكم من " رواية مالك وغيره . وقد ورد في حديث أبي هريرة أيضا : ذكر العدد في الصحيح .

وقد ذكر صاحب الكتاب .

الخامس : قوله " ثم تمضمض " مقتض للترتيب بين غسل اليدين والمضمضة .

وأصل هذه اللفظة : مشعر بالتحريك .

ومنه : مضمض النعاس في عينيه .

واستعملت في هذه السنة - أعني المضمضة في الوضوء - لتحريك الماء في الفم .

وقال بعض الفقهاء : " المضمضة " أن يجعل الماء في فيه ثم يمجه - هذا أو معناه - فأدخل المج في حقيقة المضمضة .

فعلى هذا : لو ابتلعه لم يكن مؤديا للسنة .

وهذا الذي يكثر في أفعال المتوضئين [ أعني الجعل والمج ] ويمكن أن يكون ذكر ذلك بناء على أنه الأغلب والعادة ، لا أنه يتوقف تأدي السنة على مجه .

والله أعلم .

السادس : قوله " ثم غسل وجهه " دليل على الترتيب بين غسل الوجه والمضمضة والاستنشاق ، وتأخره عنهما .

فيؤخذ منه الترتيب بين المفروض والمسنون .

وقد قيل في حكمة تقديم المضمضة والاستنشاق ، على غسل الوجه [ ص: 84 ] المفروض : إن صفات الماء ثلاث أعني المعتبرة في التطهير - لون يدرك بالبصر ، وطعم يدرك بالذوق وريح يدرك بالشم ، فقدمت هاتان السنتان ليختبر حال الماء ، قبل أداء الفرض به وبعض الفقهاء رأى الترتيب بين المفروضات .

ولم يره بين المفروض والمسنون ، كما بين المفروضات .

و " الوجه " مشتق من المواجهة .

وقد اعتبر الفقهاء هذا الاشتقاق ، وبنوا عليه أحكاما .

وقوله " ثلاثا " يفيد استحباب هذا العدد في كل ما ذكر فيه .

السابع : قوله " ويديه إلى المرفقين " المرفق فيه وجهان .

أحدهما : بفتح الميم وكسر الفاء .

والثاني : عكسه ، لغتان .

وقوله " إلى المرفقين " ليس فيه إفصاح بكونه أدخلهما في الغسل ، أو انتهى إليهما والفقهاء اختلفوا في وجوب إدخالهما في الغسل .

فمذهب مالك والشافعي : الوجوب .

وخالف زفر وغيره . ومنشأ الاختلاف فيه : أن كلمة " إلى " المشهور فيها : أنها لانتهاء الغاية وقد ترد بمعنى " مع " فمن الناس من حملها على مشهورها .

فلم يوجب إدخال المرفقين في الغسل ومنهم من حملها على معنى " مع " فأوجب إدخالها .

وقال بعض الناس : يفرق بين أن تكون الغاية من جنس ما قبلها أو لا . [ ص: 85 ]

فإن كانت من الجنس دخلت ، كما في آية الوضوء .

وإن كانت من غير الجنس لم تدخل ، كما في قوله عز وجل { ثم أتموا الصيام إلى الليل } .

وقال غيره : إنما دخل المرفقان ههنا ; لأن " إلى " ههنا غاية للإخراج ، لا للإدخال .

فإن اسم " اليد " ينطلق على العضو إلى المنكب .

فلو لم ترد هذه الغاية لوجب غسل اليد إلى المنكب .

فلما دخلت : أخرجت عن الغسل ما زاد على المرفق .

فانتهى الإخراج إلى المرفق ، فدخل في الغسل .

وقال آخرون : لما تردد لفظ " إلى " بين أن تكون للغاية ، وبين أن تكون بمعنى " مع " وجاء فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه أدار الماء على مرفقيه " كان ذلك بيانا للمجمل .

وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان الواجب المجمل محمولة على الوجوب .

وهذا عندنا ضعيف .

; لأن " إلى " حقيقة في انتهاء الغاية ، مجاز بمعنى " مع " ولا إجمال في اللفظ بعد تبين حقيقته ويدل على أنها حقيقة في انتهاء الغاية : كثرة نصوص أهل العربية على ذلك .

ومن قال : إنها بمعنى " مع " فلم ينص على أنها حقيقة في ذلك .

فيجوز أن يريد المجاز .

الثامن : قوله " ثم مسح رأسه " ظاهره : استيعاب الرأس بالمسح .

; لأن اسم " الرأس " حقيقة في العضو كله .

والفقهاء اختلفوا في القدر الواجب من المسح .

وليس في الحديث ما يدل على الوجوب .

; لأنه في آخره : إنما ذكر ترتيب ثواب مخصوص على هذه الأفعال .

وليس يلزم من ذلك عدم الصحة عند عدم كل جزء من تلك الأفعال .

فجاز أن يكون ذلك الثواب مرتبا على إكمال مسح الرأس ، وإن لم يكن واجبا إكماله ، كما يترتب على المضمضة والاستنشاق ، وإن لم يكونا واجبين عند كثير من الفقهاء ، أو الأكثرين منهم . [ ص: 86 ]

فإن سلك سالك ما قدمناه في المرفقين - من ادعاء الإجمال في الآية ، وأن الفعل بيان له - فليس بصحيح .

; لأن الظاهر من الآية : مبين .

إما على أن يكون المراد : مطلق المسح ، على ما يراه الشافعي ، بناء على أن مقتضى الباء في الآية التبعيض [ أو غير ذلك ] ، أو على أن المراد : الكل ، على ما قاله مالك .

بناء على أن اسم " الرأس " حقيقة في الجملة ، وأن " الباء " لا تعارض ذلك .

وكيفما كان : فلا إجمال .

التاسع : قوله " ثم غسل كلتا رجليه " صريح في الرد على الروافض في أن واجب الرجلين : المسح .

وقد تبين هذا من حديث عثمان ، وجماعة وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومن أحسن ما جاء فيه : حديث عمرو بن عبسة - بفتح العين والباء - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ما منكم من أحد يقرب وضوءه - إلى أن قال - ثم يغسل رجليه ، كما أمره الله عز وجل } فمن هذا الحديث : انضم القول إلى الفعل .

وتبين أن المأمور به : الغسل في الرجلين .

العاشر : قوله " ثلاثا " يدل على استحباب التكرار في غسل الرجلين ثلاثا وبعض الفقهاء لا يرى هذا العدد في الرجل ، كما في غيرها من الأعضاء .

وقد ورد في بعض الروايات " فغسل رجليه حتى أنقاهما " ولم يذكر عددا .

فاستدل به لهذا المذهب .

وأكد من جهة المعنى : بأن الرجل لقربها من الأرض في المشي عليها يكثر فيها الأوساخ والأدران ، فيحال الأمر فيها على مجرد الإنقاء من غير اعتبار العدد .

والرواية التي ذكر فيها العدد : زائدة على الرواية التي لم يذكر فيها فالأخذ بها متعين والمعنى المذكور لا ينافي اعتبار العدد .

فليعمل بما دل عليه لفظ " مثل " .

الحادي عشر : قوله " نحو وضوئي هذا " لفظة " نحو " لا تطابق لفظة " مثل " فإن لفظة " مثل " يقتضي ظاهرها المساواة من كل وجه ، إلا في الوجه الذي يقتضي التغاير بين الحقيقتين ، بحيث يخرجهما عن الوحدة .

ولفظة " نحو " [ ص: 87 ] لا تعطي ذلك ولعلها استعملت بمعنى المثل مجازا أو لعله لم يترك مما يقتضي المثلية إلا ما لا يقدح في المقصود .

يظهر في الفعل المخصوص : أن فيه أشياء ملغاة عن الاعتبار في المقصود من الفعل : فإذا تركت هذه الأشياء لم يكن الفعل مماثلا حقيقة لذلك الفعل ، ولم يقدح تركها في المقصود منه .

وهو رفع الحدث ، وترتب الثواب .

وإنما احتجنا إلى هذا وقلنا به ; لأن هذا الحديث ذكر لبيان فعل يقتدى به ، ويحصل الثواب الموعود عليه .

فلا بد أن يكون الوضوء المحكي المفعول محصلا لهذا الغرض .

فلهذا قلنا : إما أن يكون استعمل " نحو " في حقيقتها ، مع عدم فوات المقصود ، لا بمعنى " مثل " أو يكون ترك ما علم قطعا أنه لا يخل بالمقصود .

فاستعمل " نحو " في " مثل " مع عدم فوات المقصود .

والله أعلم .

ويمكن أن تقال : إن الثواب يترتب على مقارنة ذلك الفعل ، تسهيلا وتوسيعا على المخاطبين ، من غير تضييق ونقيد بما ذكرناه أولا ، إلا أن الأول أقرب إلى مقصود البيان .

الثاني عشر : هذا الثواب الموعود به يترتب على مجموع أمرين :

أحدهما : الوضوء على النحو المذكور .

والثاني : صلاة ركعتين بعده بالوصف المذكور بعده في الحديث ، والمرتب على مجموع أمرين : لا يلزم ترتبه على أحدهما إلا بدليل خارج .

وقد أدخل قوم هذا الحديث في فضل الوضوء .

وعليهم في ذلك هذا السؤال الذي ذكرناه . [ ص: 88 ] ويجاب عنه : بأن كون الشيء جزءا مما يترتب عليه الثواب العظيم : كاف في كونه ذا فضل .

فيحصل المقصود من كون الحديث دالا على فضيلة الوضوء .

ويظهر بذلك الفرق بين حصول الثواب المخصوص ، وحصول مطلق الثواب .

فالثواب المخصوص : يترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور .

والصلاة الموصوفة بالوصف المذكور .

ومطلق الثواب : قد يحصل بما دون ذلك .

الثالث عشر : قوله " ولا يحدث فيهما نفسه " إشارة إلى الخواطر والوساوس الواردة على النفس .

وهي على قسمين .

أحدهما : ما يهجم هجما يتعذر دفعه عن النفس .

والثاني : ما تسترسل معه النفس ، ويمكن قطعه ودفعه ، فيمكن أن يحمل هذا الحديث على هذا النوع الثاني .

فيخرج عنه النوع الأول ، لعسر اعتباره .

ويشهد لذلك : لفظة " يحدث نفسه " فإنه يقتضي تكسبا منه ، وتفعلا لهذا الحديث .

ويمكن أن يحمل على النوعين معا ، إلا أن العسر إنما يجب دفعه عما يتعلق بالتكاليف .

والحديث إنما يقتضي ترتب ثواب مخصوص على عمل مخصوص .

فمن حصل له ذلك العمل : حصل له ذلك الثواب ، ومن لا ، فلا . وليس ذلك من باب التكاليف ، حتى يلزم رفع العسر عنه .

نعم لا بد وأن تكون تلك الحالة ممكنة الحصول - أعني الوصف المرتب عليه الثواب المخصوص - والأمر كذلك .

فإن المتجردين عن شواغل الدنيا ، الذين غلب ذكر الله عز وجل على قلوبهم وغمرها : تحصل لهم تلك الحالة ، وقد حكي عن بعضهم ذلك .

الرابع عشر " حديث النفس " يعم الخواطر المتعلقة بالدنيا ، والخواطر المتعلقة بالآخرة .

والحديث محمول - والله أعلم - على ما يتعلق بالدنيا .

إذ لا بد من حديث النفس فيما يتعلق بالآخرة ، كالفكر في معاني المتلو من القرآن العزيز ، والمذكور من الدعوات والأذكار .

ولا نريد بما يتعلق بأمر الآخرة : كل أمر محمود ، أو مندوب إليه .

فإن كثيرا من ذلك لا يتعلق بأمر الصلاة .

وإدخاله فيها أجنبي عنها .

وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال " إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة " أو كما قال . وهذه قربة ، إلا أنها أجنبية عن مقصود الصلاة .

[ ص: 89 ] الخامس عشر : قوله " غفر له ما تقدم من ذنبه " ظاهره العموم في جميع الذنوب .

وقد خصوا مثله بالصغائر ، وقالوا : إن الكبائر إنما تكفر بالتوبة .

وكأن المستند في ذلك : أنه ورد مقيدا في مواضع ، كقوله صلى الله عليه وسلم { الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان : كفارات لما بينهن ، ما اجتنبت الكبائر } فجعلوا هذا القيد في هذه الأمور مقيدا للمطلق في غيرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية