إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
[ ص: 273 ] الحديث الأول : عن محمد بن سيرين { عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي - قال ابن سيرين : وسماها أبو هريرة . ولكن نسيت أنا - قال : فصلى بنا ركعتين ، ثم سلم . فقام إلى خشبة معروضة في المسجد ، فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وشبك بين أصابعه . وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا : قصرت الصلاة - وفي القوم أبو بكر وعمر - فهابا أن يكلماه . وفي القوم رجل في يديه طول ، يقال له : ذو اليدين فقال يا رسول الله ، أنسيت ، أم قصرت الصلاة ؟ قال : لم أنس ولم تقصر . فقال : أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم . فتقدم فصلى ما ترك . ثم سلم ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول . ثم رفع رأسه فكبر ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول . ثم رفع رأسه وكبر . فربما سألوه : ثم سلم ؟ قال : فنبئت أن عمران بن حصين قال : ثم سلم } .


" الكلام على هذا الحديث يتعلق بمباحث : بحث يتعلق بأصول الدين وبحث يتعلق بأصول الفقه . وبحث يتعلق بالفقه فأما البحث الأول : ففي موضعين :

أحدهما : أنه يدل على جواز السهو في الأفعال على الأنبياء عليهم السلام . وهو مذهب عامة العلماء والنظار . وهذا الحديث مما يدل عليه . وقد صرح صلى الله عليه وسلم في [ ص: 274 ] حديث ابن مسعود { بأنه ينسى كما تنسون } وشذت طائفة من المتوغلين ، فقالت : لا يجوز السهو عليه . وإنما ينسى عمدا . ويتعمد صورة النسيان ليسن . وهذا قطعا باطل ، لإخباره صلى الله عليه وسلم بأنه ينسى ; ولأن الأفعال العمدية تبطل الصلاة ، ولأن صورة الفعل النسياني كصورة الفعل العمدي ، وإنما يتميزان للغير بالإخبار والذين أجازوا السهو قالوا : لا يقر عليه فيما طريقه البلاغ الفعلي . واختلفوا : هل من شرط التنبيه الاتصال بالحادثة ، أو ليس من شرطه ذلك ؟ بل يجوز التراخي إلى أن تنقطع مدة التبليغ ، وهو العمر . وهذه الواقعة قد وقع البيان فيها على الاتصال ، وقد قسم القاضي عياض الأفعال إلى ما هو على طريقة البلاغ ، وإلى ما ليس على طريقة البلاغ ، ولا بيان للأحكام من أفعاله البشرية وما يختص به من عاداته وأذكار قلبه . وأبى ذلك بعض من تأخر عن زمن . وقال : إن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإقراره : كله بلاغ ، واستنتج بذلك العصمة في الكل ، بناء على أن المعجزة تدل على العصمة فيما طريقه البلاغ . وهذه كلها بلاغ . فهذه كلها تتعلق بها العصمة - أعني : القول ، والفعل والتقرير - ولم يصرح في ذلك بالفرق بين عمد وسهو . وأخذ البلاغ في الأفعال : من حيث التأسي به صلى الله عليه وسلم . فإن كان يقول بأن السهو والعمد سواء في الأفعال فهذا الحديث يرد عليه .

الموضع الثاني : الأقوال . وهي تنقسم إلى ما طريقه البلاغ . والسهو فيه ممتنع . ونقل فيه الإجماع ، كما يمتنع التعمد قطعا وإجماعا . وأما طرق السهو في الأقوال الدنيوية ، وفيما ليس سبيله البلاغ ، من الأخبار التي تستند الأحكام إليها ، لا أخبار المعاد ، ولا ما يضاف إلى وحي . فقد حكى القاضي عياض عن قوم : أنهم جوزوا السهو والغفلة في هذا الباب عليه ; إذ ليس من باب التبليغ الذي يتطرق به إلى القدح في الشريعة . قال : والحق الذي لا مرية فيه : ترجيح قول من لم يجز ذلك على الأنبياء في خبر من الأخبار ، كما لم يجيزوا عليهم فيها العمد . فإنه لا يجوز عليهم خلف من خبر ، لا عن قصد ولا سهو ، ولا في صحة ولا مرض ، ولا رضى ولا غضب . والذي يتعلق بهذا من هذا الحديث : قوله صلى الله عليه وسلم { لم أنس ولم تقصر } وفي [ ص: 275 ] رواية أخرى { كل ذلك لم يكن } واعتذر عن ذلك بوجوه :

أحدها : أن المراد لم يكن القصر والنسيان معا . وكان الأمر كذلك .

وثانيهما : أن المراد الإخبار عن اعتقاد قلبه وظنه . وكأنه مقدر النطق به ، وإن كان محذوفا ; لأنه لو صرح به وقيل : لم يكن في ظني ، ثم تبين أنه كان خلافه في نفس الأمر - لم يقتض ذلك أن يكون خلافه في ظنه . فإذا كان لو صرح به - كما ذكرناه - فكذلك إذا كان مقدرا مرادا . وهذان الوجهان يختص أولهما برواية من روى { كل ذلك لم يكن } . وأما من روى { لم أنس ولم تقصر } فلا يصح فيه هذا التأويل .

وأما الوجه الثاني : فهو مستمر على مذهب من يرى أن مدلول اللفظ الخبري هو الأمور الذهنية فإنه - وإن لم يذكر ذلك - فهو الثابت في نفس الأمر عند هؤلاء فيصير كالملفوظ به . وثالثها : أن قوله صلى الله عليه وسلم { لم أنس } يحمل على السلام ، أي : إنه كان مقصودا ، لأنه بناء على ظن التمام . ولم يقع سهوا في نفسه . وإنما وقع السهو في عدد الركعات وهذا بعيد . ورابعها : الفرق بين السهو والنسيان ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسهو ولا ينسى . ولذلك نفى عن نفسه النسيان ; لأنه غفلة . ولم يغفل عنها . وكان شغله عن حركات الصلاة وما في الصلاة : شغلا بها لا غفلة عنها . ذكره القاضي عياض . وليس في هذا تخليص للعبادة عن حقيقة السهو والنسيان ، مع بعد الفرق بينهما في استعمال اللغة وكأنه متلوح في اللفظ : أن النسيان عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة . والسهو عدم الذكر لأمر يتعلق بها . ويكون النسيان الإعراض عن تفقد أمورها ، حتى يحصل عدم الذكر ، والسهو : عدم الذكر ، لا لأجل الإعراض . وليس في هذا - بعد ما ذكرناه - تفريق كلي بين السهو والنسيان . وخامسها : ما ذكره القاضي عياض : أنه ظهر له ما هو أقرب وجها ، وأحسن تأويلا وهو أنه إنما أنكر صلى الله عليه وسلم نسبة النسيان المضاف إليه . وهو الذي نهى عنه بقوله { بئسما لأحدكم أن يقول : نسيت كذا ولكنه نسي } وقد روي { إني لا أنسى } [ ص: 276 ] على النفي { ولكني أنسى } على النفي وقد شك الراوي - على رأي بعضهم - في الرواية الأخرى : هل قال " أنسي " أو " أنسى " وأن " أو " هنا للشك . وقيل : بل للتقسيم . وأن هذا يكون منه مرة من قبل شغله وسهوه ، ومرة يغلب على ذلك ويجبر عليه ، ليسن . فلما سأله السائل بذلك اللفظ أنكره وقال له " كل ذلك لم يكن " وفي الرواية الأخرى " لم أنس ولم تقصر " أما القصر : فبين وكذلك " لم أنس " حقيقة من قبل نفسي وغفلتي عن الصلاة . ولكن الله نساني لأسن . واعلم أنه قد ورد في الصحيح من حديث ابن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ، ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني } وهذا يعترض ما ذكره القاضي ، من أنه صلى الله عليه وسلم أنكر نسبة النسيان إليه . فإنه صلى الله عليه وسلم قد نسب النسيان إليه في حديث ابن مسعود مرتين . وما ذكره القاضي عياض ، من أنه صلى الله عليه وسلم { نهى أن يقال : نسيت كذا } الذي أعرفه فيه { وبئسما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا } وهذا نهي عن إضافة " نسيت " إلى " الآية " وليس يلزم من النهي عن إضافة النسيان إلى الآية : النهي عن إضافته إلى كل شيء ; فإن الآية من كلام الله تعالى المعظم ، ويقبح بالمرء المسلم أن يضيف إلى نفسه نسيان كلام الله تعالى ، وليس هذا المعنى موجودا في كل ما ينسب إليه النسيان ، فلا يلزم مساواة غير الآية لها . وعلى كل تقدير : لو لم يظهر مناسبة لم يلزم من النهي عن الخاص النهي عن العام . وإذا لم يلزم ذلك لم يلزم أن يكون قول القائل " نسيت " - الذي أضافه إلى عدد الركعات - داخل تحت النهي . فينكر - والله أعلم - ولما تكلم بعض المتأخرين على هذا الموضع ذكر : أن التحقيق في الجواب عن ذلك : أن العصمة إنما تثبت في الإخبار عن الله في الأحكام وغيرها ; [ ص: 277 ] لأنه الذي قامت عليه المعجزة . وأما إخباره عن الأمور الوجودية : فيجوز عليه فيه النسيان هذا أو معناه .

وأما البحث المتعلق بأصول الفقه : فإن بعض من صنف في ذلك احتج به على جواز الترجيح بكثرة الرواة ، من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم طلب إخبار القوم ، بعد إخبار ذي اليدين . وفي هذا بحث .

وأما البحث المتعلق بالفقه : فمن وجوه :

أحدها : أن نية الخروج من الصلاة وقطعها ، إذا كانت بناء على ظن التمام لا يوجب بطلانها .

الثاني : أن السلام سهو لا يبطل الصلاة .

الثالث : استدل به بعضهم على أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة . وأبو حنيفة يخالف فيه .

الرابع : الكلام العمد لإصلاح الصلاة لا يبطل . وجمهور الفقهاء على أنه يبطل . وروى ابن القاسم عن مالك : أن الإمام لو تكلم بما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم . من الاستفسار والسؤال عند الشك ، وإجابة المأموم : أن صلاتهم تامة على مقتضى الحديث . والذين منعوا من هذا اختلفوا في الاعتذار عن هذا الحديث . والذي يذكر فيه وجوه :

منها : أنه منسوخ ، لجواز أن يكون في الزمن الذي كان يجوز فيه الكلام في الصلاة ، وهذا لا يصح ; لأن هذا الحديث رواه أبو هريرة ، وذكر أنه شاهد القصة وإسلامه عام خيبر ، وتحريم الكلام في الصلاة كان قبل ذلك بسنين - ولا ينسخ المتأخر بالمتقدم .

ومنها : التأويل لكلام الصحابة بأن المراد بجوابهم : جوابهم بالإشارة والإيماء ، لا بالنطق وفيه بعد ; لأنه خلاف الظاهر من حكاية الراوي لقولهم . وإن كان قد ورد من حديث حماد بن زيد { فأومئوا إليه } فيمكن الجمع ، بأن يكون بعضهم فعل ذلك إيماء ، وبعضهم كلاما . أو اجتمع الأمران في حق بعضهم .

ومنها : أن كلامهم كان إجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته واجبة واعترض عليه بعض المالكية بأن قال : إن الإجابة لا تتعين بالقول . فيكفي فيها الإيماء . [ ص: 278 ] وعلى تقدير أن يجيب القوم ، لا يلزم منه الحكم بصحة الصلاة ، لجواز أن تجب الإجابة ، ويلزمهم الاستئناف .

ومنها : أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم معتقدا لتمام الصلاة ، والصحابة تكلموا مجاوزين للنسخ ، فلم يكن كلام واحد منهم مبطلا . وهذا يضعفه ما في كتاب مسلم : { أن ذا اليدين قال أقصرت الصلاة يا رسول الله ، أم نسيت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل ذلك لم يكن ، فقال : قد كان بعض ذلك يا رسول الله . فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس . فقال : أصدق ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم يا رسول الله بعد قوله كل ذلك لم يكن } وقوله صلى الله عليه وسلم { كل ذلك لم يكن } يدل على عدم النسخ . فقد تكلموا بعد العلم بعدم النسخ . وليتنبه ههنا لنكتة لطيفة في قول ذي اليدين " قد كان بعض ذلك " بعد قوله صلى الله عليه وسلم " كل ذلك لم يكن " فإن قوله " كل ذلك لم يكن " تضمن أمرين :

أحدهما : الإخبار عن حكم شرعي . وهو عدم القصر .

والثاني : الإخبار عن أمر وجودي وهو النسيان . وأحد هذين الأمرين لا يجوز فيه النسخ ، وهو الإخبار عن الأمر الشرعي . والآخر متحقق عند ذي اليدين . فلزم أن يكون الواقع بعض ذلك ، كما ذكرنا .

الخامس : الأفعال التي ليست من جنس أفعال الصلاة إذا وقعت سهوا . فإما أن تكون قليلة أو كثيرة . فإن كانت قليلة : لم تبطل الصلاة ، وإن كانت كثيرة ففيها خلاف في مذهب الشافعي . واستدل لعدم البطلان بهذا الحديث فإن الواقع فيه أفعال كثيرة . ألا ترى إلى قوله " خرج سرعان الناس " وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم { خرج إلى منزله ومشى } قال في كتاب مسلم { ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليه } ثم قد حصل البناء بعد ذلك . فدل على عدم بطلان الصلاة بالأفعال الكثيرة سهوا .

السادس : فيه دليل جواز البناء على الصلاة ، بعد السلام سهوا ، والجمهور عليه . وذهب سحنون - من المالكية - إلى أن ذلك إنما يكون إذا سلم من [ ص: 279 ] ركعتين ، على ما ورد في الحديث ، ولعله رأى أن البناء بعد قطع الصلاة ونية الخروج منها على خلاف القياس ، وإنما ورد النص على خلاف القياس في هذه الصورة المعينة ، وهو السلام من اثنتين ، فيقصر على ما ورد النص ويبقى فيما عداه على القياس . والجواب عنه : أنه إذا كان الفرع مساويا للأصل ألحق به ، وإن خالف القياس عند بعض أهل الأصول : وقد علمنا أن المانع لصحة الصلاة إنما كان هو الخروج منها بالنية والسلام . وهذا المعنى قد ألغي عند ظن التمام بالنص . ولا فرق بالنسبة إلى هذا المعنى بين كونه بعد ركعتين ، أو كونه بعد ثلاثة ، أو بعد واحدة .

السابع : إذا قلنا بجواز البناء ، فقد خصصوه بالقرب في الزمن . وأبى ذلك بعض المتقدمين . فقال بجواز البناء ، وإن طال ، ما لم ينتقض وضوءه . روي ذلك عن ربيعة . وقيل : إن نحوه عن مالك . وليس ذلك بمشهور عنه . واستدل لهذا المذهب بهذا الحديث . ورأوا أن هذا الزمن طويل ، لا سيما على رواية من روى { أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى منزله } .

الثامن : إذا قلنا : إنه لا يبنى إلا في القرب . فقد اختلفوا في حده على أقوال . منهم : من اعتبره بمقدار فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث . فما زاد عليه من الزمن فهو طويل . وما كان بمقداره أو دونه فقريب . ولم يذكروا على هذا القول الخروج إلى المنزل . ومنهم من اعتبر في القرب العرف . ومنهم من اعتبر مقدار ركعة . ومنهم من اعتبر مقدار الصلاة . وهذه الوجوه كلها في مذهب الشافعي وأصحابه .

التاسع : فيه دليل على مشروعية سجود السهو .

العاشر : فيه دليل على أنه سجدتان . الحادي عشر : فيه دليل على أنه في آخر الصلاة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا كذلك وقيل : في حكمته : إنه أخر لاحتمال وجود سهو آخر . فيكون جابرا للكل . [ ص: 280 ] وفرع الفقهاء على هذا : أنه لو سجد ، ثم تبين أنه لم يكن آخر الصلاة ، لزمه إعادته في آخرها . وصوروا ذلك في صورتين . إحداهما : أن يسجد للسهو في الجمعة ، ثم يخرج الوقت ، وهو في السجود الأخير ، فيلزمه إتمام الظهر ، ويعيد السجود .

والثانية : أن يكون مسافرا فيسجد للسهو ، وتصل به السفينة إلى الوطن ، أو ينوي الإقامة ، فيتم ويعيد السجود .

الثاني عشر : فيه دليل على أن سجود السهو يتداخل ، ولا يتعدد بتعدد أسبابه . فإن النبي صلى الله عليه وسلم : سلم ، وتكلم ، ومشى . وهذه موجبات متعددة . واكتفى فيها بسجدتين ، وهذا مذهب الجمهور من الفقهاء . ومنهم من قال : يتعدد السجود بتعدد السهو ، على ما نقله بعضهم . ومنهم من فرق بين أن يتحد الجنس أو يتعدد . وهذا الحديث دليل على خلاف هذا المذهب . فإنه قد تعدد الجنس في القول والفعل ، ولم يتعدد السجود .

الثالث عشر : الحديث يدل على السجود بعد السلام في هذا السهو . واختلف الفقهاء في محل السجود ، فقيل : كله قبل السلام . وهو مذهب الشافعي وقيل : كله بعد السلام . وهو مذهب أبي حنيفة . وقيل : ما كان من نقص فمحله قبل السلام . وما كان من زيادة فمحله بعد السلام . وهو مذهب مالك . وأومأ إليه الشافعي في القديم . وقد ثبت في الأحاديث السجود بعد السلام في الزيادة ، وقبله في النقص . واختلف الفقهاء . فذهب مالك إلى الجمع ، بأن استعمل كل حديث قبل السلام في النقص ، وبعده في الزيادة . والذين قالوا : بأن الكل قبل السلام ، اعتذروا عن الأحاديث التي جاءت بعد السلام بوجوه :

أحدها : دعوى النسخ لوجهين : أحدهما : أن الزهري قال " إن آخر الأمرين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم : السجود قبل السلام .

الثاني : أن الذين رووا السجود قبل السلام : متأخرو الإسلام ، وأصاغر الصحابة . والاعتراض على الأول : أن رواية الزهري مرسلة ولو كانت مسندة فشرط النسخ : التعارض باتحاد المحل . ولم يقع ذلك مصرحا به في رواية الزهري . فيحتمل أن يكون الأخير : هو السجود قبل السلام ، لكن في محل النقص ، وإنما يقع التعارض المحوج إلى النسج لو تبين أن المحل واحد ولم يتبين ذلك . [ ص: 281 ] والاعتراض على الثاني : أن تقدم الإسلام والكبر لا يلزم منه تقدم الرواية حالة التحمل .

الوجه الثاني في الاعتذار عن الأحاديث التي جاءت بالسجود بعد السلام : التأويل ; إما على أن يكون المراد بالسلام : هو السلام الذي على النبي صلى الله عليه وسلم الذي في التشهد . وإما أن يكون على تأخره بعد السلام على سبيل السهو ، وهما بعيدان .

أما الأول فلأن : السابق إلى الفهم عند إطلاق " السلام " في سياق ذكر الصلاة هو الذي به التحلل . وأما الثاني : فلأن الأصل عدم السهو وتطرقه إلى الأفعال الشرعية من غير دليل غير سائغ . وأيضا فإنه مقابل بعكسه . وهو أن يقول الحنفي : محله بعد السلام . وتقدمه قبل السلام على سبيل السهو .

الوجه الثالث في الاعتذار الترجيح بكثرة الرواة : وهذا - إن صح - فالاعتراض عليه : أن طريقة الجمع أولى من طريقة الترجيح . فإنه يصار إليه عند عدم إمكان الجمع . وأيضا فلا بد من النظر إلى محل التعارض واتحاد موضع الخلاف من الزيادة والنقصان . والقائلون بأن محل السجود بعد السلام اعتذروا عن الأحاديث المخالفة لذلك التأويل : إما على أن يكون المراد بقوله " قبل السلام " السلام الثاني ، أو يكون المراد بقوله " وسجد سجدتين " سجود الصلاة . وما ذكره الأولون من احتمال السهو : عائد ههنا . والكل ضعيف . والأول يبطله : أن سجود السهو لا يكون إلا بعد التسليمتين اتفاقا . وذهب أحمد بن حنبل إلى الجمع بين الأحاديث بطريق أخرى ، غير ما ذهب إليه مالك . وهو أن يستعمل كل حديث فيما ورد فيه . وما لم يرد . فيه حديث فمحل السجود فيه قبل السلام . وكأن هذا نظر إلى أن الأصل في الجابر : أن يقع في المجبور ، فلا يخرج عن هذا الأصل إلا في مورد النص . ويبقى فيما عداه على الأصل .

وهذا المذهب مع مذهب مالك متفقان في طلب الجمع ، وعدم سلوك طريق الترجيح ، لكنهما اختلفا في وجه الجمع . ويترجح قول مالك بأن تذكر المناسبة في كون سجود السهو قبل السلام عند النقص . وبعده عند الزيادة . وإذا ظهرت المناسبة - وكان الحكم على وفقها - كانت علة ، وإذ كانت علة : عم الحكم . فلا يتخصص ذلك بمورد النص .

[ ص: 282 ] الوجه الرابع عشر : إذا سها الإمام : تعلق حكم سهوه بالمأمومين ، وسجدوا معه وإن لم يسهوا . واستدل عليه بهذا الحديث . فإن النبي صلى الله عليه وسلم سها وسجد القوم معه لما سجد ، وهذا إنما يتم في حق من لم يتكلم من الصحابة ، ولم يمش ولم يسلم ، إن كان ذلك .

الوجه الخامس عشر : فيه دليل على التكبير لسجود السهو . كما في سجود الصلاة .

الوجه السادس عشر : القائل " فنبئت أن عمران بن حصين قال : ثم سلم " هو محمد بن سيرين الراوي عن أبي هريرة ، وكان الصواب للمصنف : أن يذكره فإنه لما لم يذكر إلا أبا هريرة ، اقتضى ذلك أن يكون هو القائل " فنبئت " وليس كذلك وهذا يدل على السلام من سجود السهو .

الوجه السابع عشر : لم يذكر التشهد بعد سجود السهو . وفيه خلاف عند أصحاب مالك في السجود الذي بعد السلام . وقد يستدل بتركه في الحديث على عدمه في الحكم ، كما فعلوا في مثله كثيرا ، من حيث إنه لو كان لذكر ظاهرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية