إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
109 - الحديث الثالث : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال { أقبلت راكبا على حمار أتان ، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار . مررت بين يدي [ ص: 286 ] بعض الصف فنزلت ، فأرسلت الأتان ترتع . ودخلت في الصف ، فلم ينكر ذلك علي أحد } .


قوله " حمار أتان " فيه استعمال لفظ " الحمار " في الذكر والأنثى ، كلفظ " الشاة " ولفظ " الإنسان " وفي رواية مسلم { على أتان } ولم يذكر لفظة " حمار " . وقوله : " ناهزت الاحتلام " أي قاربته . وهو يؤنس لقول من قال : إن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ، وقول من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم مات وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة ، خلافا لمن قال غير ذلك مما لا يقارب البلوغ . ولعل قوله " قد ناهزت الاحتلام " ههنا تأكيد لهذا الحكم . وهو عدم بطلان الصلاة بمرور الحمار . لأنه استدل على ذلك بعدم الإنكار . وعدم الإنكار على من هو في مثل هذا السن أدل على هذا الحكم . لأنه لو كان في سن الصغر وعدم التمييز - مثلا - لاحتمل أن يكون عدم الإنكار عليه لعدم مؤاخذته بسبب صغر سنه وعدم تمييزه . وقد استدل ابن عباس بعدم الإنكار عليه ، ولم يستدل بعدم استئنافهم للصلاة .

لأنه أكثر فائدة . فإنه إذا دل عدم إنكارهم على أن هذا الفعل غير ممنوع من فاعله ، دل ذلك على عدم إفساد الصلاة ، إذ لو أفسدها لامتنع إفساد صلاة الناس على المار . ولا ينعكس هذا . وهو أن يقال : ولو لم يفسد لم يمتنع على المار ، لجواز أن لا تفسد الصلاة ويمتنع المرور ، كما تقول في مرور الرجل بين يدي المصلي ، حيث يكون له مندوحة : إنه ممتنع عليه المرور ، وإن لم يفسد الصلاة على المصلي . فثبت بهذا أن عدم الإنكار دليل على الجواز . والجواز دليل على عدم الإفساد ، وأنه لا ينعكس . فكان الاستدلال بعدم الإنكار أكثر فائدة من الاستدلال بعدم استئنافهم الصلاة . ويستدل بالحديث على أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يفسد الصلاة . وقد قال في الحديث " بغير جدار " ولا يلزم من عدم الجدار عدم السترة . [ ص: 287 ] فإن لم يكن ثمة سترة غير الجدار فالاستدلال ظاهر . وإن كان : وقف الاستدلال على أحد أمرين : إما أن يكون هذا المرور وقع دون السترة - أعني بين السترة والإمام - وإما أن يكون الاستدلال وقع بالمرور بين يدي المأمومين أو بعضهم ، لكن قد قالوا : إن سترة الإمام سترة لمن خلفه . فلا يتم الاستدلال إلا بتحقيق إحدى هذه المقدمات ، التي منها : أن سترة الإمام ليست سترة لمن خلفه ، إن لم يكن مجمعا عليها . وعلى الجملة : فالأكثرون من الفقهاء على أنه لا تفسد الصلاة بمرور شيء بين يدي المصلي . ووردت أحاديث معارضة لذلك فمنها : ما دل على انقطاع الصلاة بمرور الكلب والمرأة والحمار .

ومنها : ما دل على انقطاعها بمرور الكلب الأسود والمرأة والحمار . وهذان صحيحان .

ومنها ما دل على انقطاعها بمرور الكلب الأسود والمرأة والحمار واليهودي والنصراني والمجوسي والخنزير . وهذا ضعيف .

فذهب أحمد بن حنبل إلى أن مرور الكلب الأسود يقطعها . ولم نجد لذلك معارضا . قال : وفي قلبي من المرأة والحمار شيء . وإنما ذهب إلى هذا - والله أعلم - لأنه ترك الحديث الضعيف بمرة . ونظر إلى الصحيح . فحمل مطلق " الكلب " في بعض الروايات على تقييده بالأسود ، في بعضها . ولم يجد لذلك معارضا ، فقال به . ونظر إلى المرأة والحمار . فوجد حديث عائشة - الآتي - يعارض أمر المرأة . وحديث ابن عباس - هذا - يعارض أمر الحمار . فتوقف على ذلك وهذه العبارة - التي حكيناها عنه - أجود مما دل عليه كلام الأثرم من جزم القول . عن أحمد بأنه لا يقطع المرأة والحمار . وإنما كان كذلك : لأن جزم القول به يتوقف على أمرين :

أحدهما : أن يتبين تأخر المقتضي لعدم الفساد على المقتضي للفساد . وفي ذلك عسر عند المبالغة في التحقيق .

والثاني : أن يتبين أن مرور المرأة مساو لما حكته عائشة رضي الله عنها من الصلاة إليها وهي راقدة . وليست هذه المقدمة بالبينة عندنا لوجهين :

أحدهما : أنها رضي الله عنها ذكرت أن البيوت يومئذ ليس فيها مصابيح فلعل سبب هذا الحكم : عدم المشاهدة لها .

والثاني : أن قائلا قال : إن مرور المرأة ومشيها لا يساويه في [ ص: 288 ] التشويش على المصلي اعتراضها بين يديه . فلا يساويه في الحكم : لم يكن ذلك بالممتنع . وليس يبعد من تصرف الظاهرية مثل هذا . وقوله . فأرسلت الأتان ترتع " أي ترعى .

وفي الحديث دليل على أن عدم الإنكار حجة على الجواز . وذلك مشروط بأن تنتفي الموانع من الإنكار . ويعلم الاطلاع على الفعل . وهذا ظاهر . ولعل السبب في قول ابن عباس " ولم ينكر ذلك علي أحد " ولم يقل : ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم علي ذلك : أنه ذكر أن هذا الفعل كان بين يدي بعض الصف . وليس يلزم من ذلك اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، لجواز أن يكون الصف ممتدا . فلا يطلع عليه . لفقد شرط الاستدلال بعدم الإنكار على الجواز . وهو الاطلاع مع عدم المانع . أما عدم الإنكار ممن رأى هذا الفعل : فهو متيقن ، فترك المشكوك فيه ، وهو الاستدلال بعدم الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم . وأخذ المتيقن ، وهو الاستدلال بعدم إنكار الرائين للواقعة ، وإن كان يحتمل أن يقال : إن قوله . ولم ينكر ذلك علي أحد " يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ، لعموم لفظة " أحد " إلا أن فيه ضعفا ; لأنه لا معنى للاستدلال بعدم إنكار غير الرسول صلى الله عليه وسلم بحضرته ، وعدم إنكاره إلا على بعد .

التالي السابق


الخدمات العلمية