إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
111 - الحديث الأول : عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه قال : قال " رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين } .


الكلام عليه من وجوه :

أحدها : في حكم الركعتين عند دخول المسجد . وجمهور العلماء على عدم الوجوب لهما . ثم اختلفوا . فظاهر مذهب مالك : أنهما [ ص: 290 ] من النوافل . وقيل : إنهما من السنن . وهذا على اصطلاح المالكية في الفرق بين النوافل والسنن والفضائل . ونقل عن بعض الناس : أنهما واجبتان تمسكا بالنهي عن الجلوس قبل الركوع . وعلى الرواية الأخرى - التي وردت بصيغة الأمر - يكون التمسك بصيغة الأمر . ولا شك أن ظاهر الأمر : الوجوب . وظاهر النهي : التحريم ومن أزالهما عن الظاهر فهو محتاج إلى الدليل . ولعلهم يفعلون في هذا ما فعلوا في مسألة الوتر ، حيث استدلوا على عدم الوجوب فيه بقوله صلى الله عليه وسلم { خمس صلوات كتبهن الله على العباد } وقول السائل { هل علي غيرهن ؟ قال : لا إلا أن تطوع } فحملوا لذلك صيغة الأمر على الندب ، لدلالة هذا الحديث على عدم وجوب غير الخمس ، إلا أن هذا يشكل عليهم بإيجابهم الصلاة على الميت ، تمسكا بصيغة الأمر .

الوجه الثاني : إذا دخل المسجد في الأوقات المكروهة ، فهل يركع أم لا ؟ اختلفوا فيه . فمذهب مالك : أنه لا يركع . والمعروف من مذهب الشافعي وأصحابه أنه يركع . لأنها صلاة لها سبب . ولا يكره في هذه الأوقات من النوافل إلا ما لا سبب له . وحكي وجه آخر : أنه يكره . وطريقة أخرى : أن محل الخلاف إذا قصد الدخول في هذه الأوقات لأجل أن يصلي فيها . أما غير هذا الوجه : فلا . وأما ما حكاه القاضي عياض عن الشافعي في جواز صلاتها بعد العصر ، ما لم تصفر الشمس ، وبعد الصبح ما لم يسفر ، إذا هي عنده من النوافل التي لها سبب . وإنما يمنع في هذه الأوقات ما لا سبب له ، ويقصد ابتداء ، لقوله صلى الله عليه وسلم { لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها } انتهى كلامه . هذا لا نعرفه من نقل أصحاب الشافعي على هذه الصورة . وأقرب الأشياء إليه : ما حكيناه من هذه الطريقة ، إلا أنه ليس هو إياه بعينه . وهذا الخلاف في هذه المسألة ينبني على مسألة أصولية مشكلة ، وهو ما إذا تعارض نصان ، كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عام من وجه ، خاص من وجه . [ ص: 291 ] ولست أعني بالنصين ههنا ما لا يحتمل التأويل . وتحقيق ذلك أولا يتوقف على تصوير المسألة . فنقول : مدلول أحد النصين : إن لم يتناول مدلول الآخر ولا شيئا منه ، فهما متباينان ، كلفظة " المشركين " و " المؤمنين " مثلا ، وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر . فهما متساويان ، كلفظة " الإنسان " و " البشر " مثلا ، وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر ، ويتناول غيره . فالمتناول له ولغيره : عام من كل وجه بالنسبة إلى الآخر ، والآخر خاص من كل وجه . وإن كان مدلولهما يجتمع في صورة ، وينفرد كل واحد منهما بصورة أو صور . فكل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه . فإذا تقرر هذا ، فقوله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أحدكم المسجد " إلخ مع قوله { لا صلاة بعد الصبح } من هذا القبيل . فإنهما يجتمعان في صورة . وهو ما إذا دخل المسجد بعد الصبح ، أو العصر وينفردان أيضا ، بأن توجد الصلاة في هذا الوقت من غير دخول المسجد ، ودخول المسجد في غير ذلك الوقت . فإذا وقع مثل هذا فالإشكال قائم ، لأن أحد الخصمين لو قال : لا تكره الصلاة عند دخول المسجد في هذه الأوقات . لأن هذا الحديث دل على جوازها عند دخول المسجد - وهو خاص بالنسبة إلى الحديث الأول المانع من الصلاة بعد الصبح - فأخص قوله { لا صلاة بعد الصبح } بقوله " إذا دخل أحدكم المسجد " فلخصمه أن يقول قوله " إذا دخل أحدكم المسجد " عام بالنسبة إلى الأوقات . فالحاصل : أن قوله عليه السلام " إذا دخل أحدكم " خاص بالنسبة إلى هذه الصلاة - أعني الصلاة عند دخول المسجد - عام بالنسبة إلى هذه الأوقات . وقوله { لا صلاة بعد الصبح } خاص بالنسبة إلى هذا الوقت ، عام بالنسبة إلى الصلوات . فوقع الإشكال من ههنا . وذهب بعض المحققين في هذا إلى الوقف ، حتى يأتي ترجيح خارج بقرينة أو غيرها . فمن ادعى أحد هذين الحكمين أعني الجواز أو المنع - فعليه إبداء أمر زائد على مجرد الحديث . .

الوجه الثالث : إذا دخل المسجد ، بعد أن صلى ركعتي الفجر في بيته ، فهل يركعهما في المسجد ؟ اختلف قول مالك فيه ، وظاهر الحديث . يقتضي الركوع . وقيل : إن الخلاف في هذا من جهة معارضة هذا الحديث للحديث الذي رووه من [ ص: 292 ] قوله عليه السلام { لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر } وهذا أضعف من المسألة السابقة . لأنه يحتاج في هذا إلى إثبات صحة هذا الحديث حتى يقع التعارض فإن الحديثين الأولين في المسألة الأولى صحيحان ، وبعد التجاوز عن هذه المطالبة وتقدير تسليم صحته : يعود الأمر إلى ما ذكرناه من تعارض أمرين ، يصير كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه . وقد ذكرناه .

الوجه الرابع : إذا دخل مجتازا ، فهل يؤمر بالركوع ؟ خفف ذلك مالك وعندي : أن دلالة هذا الحديث لا تتناول هذه المسألة . فإنا إن نظرنا إلى صيغة النهي ، فالنهي يتناول جلوسا قبل الركوع . فإذا لم يحصل الجلوس أصلا لم يفعل المنهي . وإن نظرنا إلى صيغة الأمر ، فالأمر توجه بركوع قبل الجلوس . فإذا انتفيا معا : لم يخالف الأمر .

الوجه الخامس : لفظة " المسجد " تتناول كل مسجد ، وقد أخرجوا عنه المسجد الحرام . وجعلوا تحيته الطواف . فإن كان في ذلك خلاف ، فلمخالفهم أن يستدل بهذا الحديث ، وإن لم يكن : فالسبب في ذلك النظر إلى المعنى . وهو أن المقصود : افتتاح الدخول في محل العبادة بعبادة ، وعبادة الطواف . تحصل هذا المقصود ، من أن غير هذا المسجد لا يشاركه فيها . فاجتمع في ذلك تحصيل المقصود من الاختصاص . وأيضا فقد يؤخذ ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجته ، حين دخل المسجد ، فابتدأ بالطواف على ما يقتضيه ظاهر الحديث . واستمر عليه العمل . وذلك أخص من هذا العموم . وأيضا فإذا اتفق أن طاف ومشى على السنة في تعقيب الطواف بركعتيه ، وجرينا على ظاهر اللفظ في الحديث ، فقد وفينا بمقتضاه .

الوجه السادس : إذا صلى العيد في المسجد . فهل يصلي التحية عند الدخول فيه ؟ اختلف فيه . والظاهر في لفظ هذا الحديث : أنه يصلي . لكن جاء في الحديث . { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها } أعني صلاة العيد . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد في المسجد . ولا نقل ذلك . فلا معارضة بين الحديثين ، إلا أن يقول قائل ، ويفهم فاهم : أن ترك الصلاة قبل العيد وبعدها من سنة صلاة العيد ، من حيث هي هي وليس لكونها واقعة في الصحراء أثر في ذلك الحكم . فحينئذ يقع [ ص: 293 ] التعارض ، غير أن ذلك يتوقف على أمر زائد ، وقرائن تشعر بذلك . فإن لم يوجد فالاتباع أولى استحبابا . أعني في ترك الركوع في الصحراء ، وفعله في المسجد للمسجد ، لا للعيد .

الوجه السابع : من كثر تردده إلى المسجد ، وتكرر : هل يتكرر له الركوع مأمورا به ؟ قال بعضهم : لا . وقاسه على الحطابين والفكاهين المترددين إلى مكة في سقوط الإحرام عنهم إذا تكرر ترددهم . والحديث يقتضي تكرر الركوع بتكرر الدخول . وقول هذا القائل يتعلق بمسألة أصولية . وهو تخصيص العموم بالقياس ، وللأصوليين في ذلك أقوال متعددة .

التالي السابق


الخدمات العلمية