إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
112 - الحديث الثاني : عن زيد بن أرقم قال { كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه ، وهو إلى جنبه في الصلاة ، حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام } .


الكلام عليه من وجوه :

الأول : هذا اللفظ أحد ما يستدل به على الناسخ والمنسوخ . وهو ذكر الراوي لتقدم أحد الحكمين على الآخر . وهذا لا شك فيه . وليس كقوله : هذا منسوخ من غير بيان التاريخ . فإن ذلك قد ذكروا فيه : أنه لا يكون دليلا . لاحتمال أن يكون الحكم بالنسخ عن طريق اجتهادي منه .

الثاني " القنوت " يستعمل في معنى الطاعة ، وفي معنى الإقرار بالعبودية ، والخضوع والدعاء ، وطول القيام والسكوت . وفي كلام بعضهم ما يفهم منه : أنه موضوع للمشترك . قال القاضي عياض : وقيل : أصله الدوام على الشيء . فإذا كان هذا أصله ، فمديم الطاعة قانت ، وكذلك الداعي والقائم في الصلاة ، والمخلص فيها ، والساكت فيها كلهم فاعلون للقنوت . وهذا إشارة إلى ما ذكرناه من استعماله في معنى مشترك . وهذه طريقة طائفة من المتأخرين من أهل العصر وما قاربه ، يقصدون ب " ها دفع الاشتراك اللفظي والمجاز عن موضوع اللفظ . [ ص: 294 ] ولا بأس بها إن لم يقم دليل على أن اللفظ حقيقة في معنى معين أو معان . ويستعمل حيث لا يقوم دليل على ذلك .

الثالث : لفظ الراوي يشعر بأن المراد بالقنوت في الآية : السكوت ، لما دل عليه لفظ " حتى " التي للغاية . والفاء التي تشعر بتعليل ما سبق عليها لما يأتي بعدها . وقد قيل : إن " القنوت " في الآية الطاعة . وفي كلام بعضهم : ما يشعر بحمله على الدعاء المعروف ، حتى جعل ذلك دليلا على أن الصلاة الوسطى هي الصبح ، من حيث قرانها بالقنوت . والأرجح في هذا كله : حمله على ما أشعر به كلام الراوي . فإن المشاهدين للوحي والتنزيل يعلمون ، بسبب النزول والقرائن المحتفة به : ما يرشدهم إلى تعيين المحتملات ، وبيان المجملات . فهم في ذلك كله كالناقلين للفظ يدل على التعليل والتسبيب . .

وقد قالوا : إن قول الصحابي في الآية " نزلت في كذا " يتنزل منزلة المسند .

الرابع : قوله " فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام " يقتضي أن كل ما يسمى كلاما فهو منهي عنه ، وما لا يسمى كلاما فدلالة الحديث قاصرة في النهي عنه . وقد اختلف الفقهاء في أشياء : هل تبطل الصلاة أم لا ؟ كالنفخ ، والتنحنح بغير علة وحاجة ، والبكاء . والذي يقتضيه القياس : أن ما سمي كلاما فهو داخل تحت اللفظ . وما لا يسمى كلاما ، فمن أراد إلحاقه به كان ذلك بطريق القياس فليراع شرطه في مساواة الفرع للأصل ، أو زيادته عليه ، واعتبر أصحاب الشافعي ظهور حرفين ، وإن لم يكونا مفهمين . فإن أقل الكلام حرفان . ولقائل أن يقول : ليس يلزم من كون الحرفين يتألف منهما الكلام : أن يكون كل حرفين كلاما . وإذا لم يكن كلاما فالإبطال به لا يكون بالنص ، بل بالقياس على ما ذكرنا ، فليراع شرطه . اللهم إلا أن يريد بالكلام كل مركب ، مفهما كان أو غير مفهم . فحينئذ يندرج المتنازع فيه تحت اللفظ ، إلا أن فيه بحثا . والأقرب : أن ينظر إلى مواقع الإجماع والخلاف ، حيث لا يسمى الملفوظ به كلاما . فما أجمع على إلحاقه بالكلام ألحقناه به ، وما لم يجمع عليه - مع كونه لا يسمى كلاما - فيقوى فيه عدم الإبطال . ومن هذا استبعد القول بإلحاق النفخ بالكلام . ومن ضعيف التعليل فيه : قول من علل البطلان به بأنه يشبه الكلام . وهذا [ ص: 295 ] ركيك . مع ثبوت السنة الصحيحة { أن النبي صلى الله عليه وسلم نفخ في صلاة الكسوف في سجوده } وهذا البحث كله : في الاستدلال بتحريم الكلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية