إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
121 - الحديث الثاني : عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : { لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية ؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا ، فقلنا : يا رسول الله ، قد علمنا الله كيف نسلم عليك : فكيف نصلي عليك ؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد } .


الكلام عليه من وجوه :

الأول : " كعب بن عجرة " من بني سالم بن عوف . وقيل : من بني الحارث من قضاعة . شهد بيعة الرضوان . ومات سنة اثنتين وخمسين بالمدينة فيما قيل . روى له الجماعة كلهم .

الثاني : صيغة الأمر في قوله " قولوا " ظاهرة في الوجوب . وقد اتفقوا على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم . فقيل : تجب في العمر مرة . وهو الأكثر . وقيل : تجب في كل صلاة في التشهد الأخير . وهو مذهب الشافعي وقيل إنه لم يقله أحد قبله . وتابعه إسحاق . وقيل : تجب كلما ذكر . واختاره الطحاوي من الحنفية ، والحليمي من الشافعية . وليس في هذا الحديث تنصيص على أن هذا الأمر [ ص: 311 ] مخصوص بالصلاة . وقد كثر الاستدلال على وجوبها في الصلاة بين المتفقهة بأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة بالإجماع . ولا تجب في غير الصلاة بالإجماع . فتعين أن تجب في الصلاة . وهو ضعيف جدا . لأن قوله " لا تجب في غير الصلاة بالإجماع " إن أراد به : لا تجب في غير الصلاة عينا ، فهو صحيح . لكنه لا يلزم منه : أن تجب في الصلاة عينا ، لجواز أن يكون الواجب مطلق الصلاة . فلا يجب واحد من المعينين - أعني خارج الصلاة وداخل الصلاة وإن أراد ما هو أعم من ذلك وهو الوجوب المطلق فممنوع .

الثالث : في وجوب الصلاة على الآل وجهان عند أصحاب الشافعي . وقد يتمسك من قال بالوجوب بلفظ الأمر .

الرابع : اختلفوا في " الآل " فاختار الشافعي : أنهم بنو هاشم وبنو المطلب . وقال غيره : أهل دينه عليه السلام . قال الله تعالى { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }

الخامس : اشتهر بين المتأخرين سؤال . وهو : أن المشبه دون المشبه به . فكيف يطلب صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تشبها بالصلاة على إبراهيم ؟ والذي يقال فيه وجوه :

أحدها : أنه تشبيه لأصل الصلاة بأصل الصلاة ، لا القدر بالقدر . وهذا كما اختاروا في قوله تعالى { كتب عليكم الصيام ، كما كتب على الذين من قبلكم } أن المراد : أصل الصيام ، لا عينه ووقته . وليس هذا بالقوي .

الثاني . أن التشبيه وقع في الصلاة على الآل ، لا على النبي صلى الله عليه وسلم فكأن قوله " اللهم صل على محمد " مقطوعا عن التشبيه . وقوله " وعلى آل محمد " متصل بقوله " كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم " وفي هذا من السؤال : أن غير الأنبياء لا يمكن أن يساويهم . فكيف يطلب وقوع ما لا يمكن وقوعه ؟ وههنا يمكن أن يرد إلى أصل الصلاة ، ولا يرد ما يرد على تقدير أن يكون المشبه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله .

الثالث : أن المشبه : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله بالصلاة على إبراهيم وآله ، أي المجموع بالمجموع . ومعظم الأنبياء عليهم السلام هم آل إبراهيم فإذا تقابلت الجملة بالجملة ، وتعذر أن يكون لآل الرسول عليه السلام مثل [ ص: 312 ] ما لآل إبراهيم - الذين هم الأنبياء - كان ما توفر من ذلك حاصلا للرسول صلى الله عليه وسلم فيكون زائدا على الحاصل لإبراهيم صلى الله عليه وسلم . والذي يحصل من ذلك هو آثار الرحمة والرضوان . فمن كانت في حقه أكثر كان أفضل .

الرابع أن هذه الصلاة الأمر بها للتكرار بالنسبة إلى كل صلاة في حق كل مصل . فإذا اقتضت في كل مصل حصول صلاة مساوية للصلاة على إبراهيم عليه السلام كان الحاصل للنبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مجموع الصلاة أضعافا مضاعفة ، لا ينتهي إليها العد والإحصاء . فإن قلت : التشبيه حاصل بالنسبة إلى أصل هذه الصلاة ، والفرد منها . فالإشكال وارد . قلت : متى يرد الإشكال : إذا كان الأمر للتكرار ، أو إذا لم يكن ؟ الأول : ممنوع .

والثاني : مسلم ، ولكن هذا الأمر للتكرار بالاتفاق . وإذا كان للتكرار ، فالمطلوب من المجموع : حصول مقدار لا يحصى من الصلاة بالنسبة إلى المقدار الحاصل لإبراهيم عليه السلام .

الخامس : لا يلزم من مجرد السؤال لصلاة مساوية للصلاة على إبراهيم عليه السلام المساواة ، أو عدم الرجحان عند السؤال . وإنما يلزم ذلك لو لم يكن الثابت للرسول صلى الله عليه وسلم صلاة مساوية لصلاة إبراهيم ، أو زائدة عليها . أما إذا كان كذلك فالمسئول من الصلاة إذا انضم إلى الثابت المتكرر للرسول صلى الله عليه وسلم ، كان المجموع زائدا في المقدار على القدر المسئول . وصار هذا في المثال كما إذا ملك إنسان أربعة آلاف درهم ، وملك آخر ألفين . فسألنا أن نعطي صاحب الأربعة آلاف مثل ما لذلك الآخر ، وهو الألفان . فإذا حصل ذلك انضمت الألفان إلى أربعة آلاف . فالمجموع ستة آلاف . وهي زائدة على المسئول الذي هو ألفان .

السادس من الكلام على الحديث : قوله " إنك حميد " بمعنى محمود ، ورد بصيغة المبالغة ، أي مستحق لأنواع المحامد . و " مجيد " مبالغة من ماجد والمجد الشرف . فيكون ذلك كالتعليل لاستحقاق الحمد بجميع المحامد . ويحتمل أن يكون " حميد " مبالغة من حامد . ويكون ذلك كالتعليل للصلاة المطلوبة . فإن الحمد والشكر متقاربان فحميد قريب من معنى شكور . وذلك [ ص: 313 ] مناسب لزيادة الأفضال والإعطاء لما يراد من الأمور العظام . وذلك المجد والشرف مناسبته لهذا المعنى ظاهرة . و " البركة " الزيادة والنماء من الخير . والله أعلم . .

التالي السابق


الخدمات العلمية