إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
130 - الحديث الثالث : عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم . قال وما ذاك ؟ قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق . ويعتقون ولا نعتق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم ، وتسبقون من بعدكم . ولا يكون أحد أفضل منكم ، إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ قالوا : بلى ، يا رسول الله . قال : تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة : ثلاثا وثلاثين مرة . قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين ، فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ، ففعلوا مثله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } .


[ ص: 327 ] قال : سمي : فحدثت بعض أهلي بهذا الحديث . فقال : وهمت ، إنما قال لك : تسبح الله ثلاثا وثلاثين ، وتحمد الله ثلاثا وثلاثين ، وتكبر الله ثلاثا وثلاثين . فرجعت إلى أبي صالح ، فقلت له ذلك . فقال : قل الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ، حتى تبلغ من جميعهن ثلاثا وثلاثين " . الحديث يتعلق بالمسألة المشهورة بالتفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر وقد اشتهر فيها الخلاف . والفقراء ذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضي تفضيل الأغنياء بسبب القربات المتعلقة بالمال . وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك . ولكن علمهم ما يقوم مقام تلك الزيادة . فلما قالها الأغنياء ساووهم فيها . وبقي معهم رجحان قربات الأموال . فقال عليه السلام " وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " فظاهره القريب من النص : أنه فضل الأغنياء بزيادة القربات المالية . وبعض الناس تأول قوله " وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " بتأويل مستكره ، ويخرجه عما ذكرناه من الظاهر . والذي يقتضيه الأصل أنهما إن تساويا وحصل الرجحان بالعبادات المالية أن يكون الغني أفضل ، ولا شك في ذلك .

وإنما النظر إذا تساويا في أداء الواجب فقط . وانفرد كل واحد بمصلحة ما هو فيه وإذا كانت المصالح متقابلة ففي ذلك نظر ، يرجع إلى تفسير الأفضل . فإن فسر بزيادة الثواب ، فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضل من القاصرة . وإن كان الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس ، فالذي يحصل للنفس من التطهير للأخلاق ، والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر : أشرف . فيترجح الفقراء . ولهذا المعنى ذهب الجمهور من الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر ، لأن مدار [ ص: 328 ] الطريق على تهذيب النفس ورياضتها . وذلك مع الفقر أكثر منه مع الغنى ، فكان أفضل بمعنى الأشرف وقوله " ذهب أهل الدثور " الدثر : هو المال الكثير . وقوله " تدركون به من سبقكم " يحتمل أن يراد به السبق المعنوي . وهو السبق في الفضيلة . وقوله " من بعدكم " أي من بعدكم في الفضيلة ممن لا يعمل هذا العمل . ويحتمل أن يراد القبلية الزمانية ، والبعدية الزمانية . ولعل الأول أقرب إلى السياق . فإن سؤالهم كان عن أمر الفضيلة ، وتقدم الأغنياء فيها . وقوله " لا يكون أحد أفضل منكم " يدل على ترجيح هذه الأذكار على فضيلة المال ، وعلى أن تلك الفضيلة للأغنياء مشروطة بأن لا يفعلوا هذا الفعل الذي أمر به الفقراء . وفي تلك الرواية تعليم كيفية هذا الذكر . وقد كان يمكن أن يكون فرادى - أي كل كلمة على حدة - ولو فعل ذلك جاز ، وحصل به المقصود . ولكن بين في هذه الرواية أنه يكون مجموعا ، ويكون العدد للجملة . وإذا كان ذلك يحصل في كل فرد هذا العدد ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية