إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
135 - الحديث الثاني : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من جاء منكم الجمعة فليغتسل } .


الحديث صريح في الأمر بالغسل للجمعة . وظاهر الأمر : الوجوب . وقد جاء مصرحا به بلفظ الوجوب في حديث آخر . فقال بعض الناس بالوجوب ، بناء على الظاهر . وخالف الأكثرون ، فقالوا بالاستحباب . وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر . فأولوا صيغة الأمر على الندب ، وصيغة الوجوب على [ ص: 334 ] التأكيد ، كما يقال : حقك واجب علي . وهذا التأويل الثاني : أضعف من الأول . وإنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحا في الدلالة على هذا الظاهر . وأقوى ما عارضوا به حديث " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت . ومن اغتسل فالغسل أفضل " ولا يقاوم سنده سند هذه الأحاديث ، وإن كان المشهور من سنده صحيحا على مذهب بعض أصحاب الحديث . وربما احتمل أيضا تأويلا مستكرها بعيدا ، كبعد تأويل لفظ " الوجوب " على التأكيد . وأما غير هذا الحديث من المعارضات المذكورة لما ذكرناه من دلائل الوجوب : فلا تقوى دلالته على عدم الوجوب ، لقوة دلائل الوجوب عليه . وقد نص مالك على الوجوب . فحمله المخالفون - ممن لم يمارس مذهبه - على ظاهره . وحكي عنه أنه يروي الوجوب ولم ير ذلك أصحابه على ظاهره . وفي الحديث دليل على تعليق الأمر بالغسل بالمجيء إلى الجمعة . والمراد إرادة المجيء ، وقصد الشروع فيه . وقال مالك به . واشترط الاتصال بين الغسل والرواح ، وغيره لا يشترط ذلك . ولقد أبعد الظاهري إبعادا يكاد يكون مجزوما ببطلانه ، حيث لم يشترط تقدم الغسل على إقامة صلاة الجمعة ، حتى اغتسل قبل الغروب كفى عنده ، تعلقا بإضافة الغسل إلى اليوم في بعض الروايات وقد تبين من بعض الأحاديث : أن الغسل لإزالة الروائح الكريهة . ويفهم منه : أن المقصود عدم تأذي الحاضرين . وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة . وكذلك أقول : لو قدمه بحيث لا يحصل هذا المقصود لم يعتد به . والمعنى إذا كان معلوما كالنص قطعا ، أو ظنا مقاربا للقطع : فاتباعه وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ . وقد كنا قررنا في مثل هذا قاعدة ، وهي انقسام الأحكام إلى أقسام :

منها : أن يكون أصل المعنى معقولا ، وتفصيله يحتمل التعبد . فإذا وقع مثل هذا فهو محل نظر . ومما يبطل مذهب الظاهري : أن الأحاديث التي علق فيها الأمر بالإتيان أو المجيء قد دلت على توجه الأمر إلى هذه الحالة . والأحاديث التي تدل على تعليق الأمر باليوم لا يتناول تعليقه بهذه الحالة . فهو إذا تمسك بتلك أبطل دلالة هذه [ ص: 335 ] الأحاديث على تعليق الأمر بهذه الحالة . وليس له ذلك . ونحن إذا قلنا بتعليقه بهذه الحالة فقد عملنا بهذه الأحاديث من غير إبطال لما استدل به .

التالي السابق


الخدمات العلمية