إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
139 - الحديث السادس : عن أبي هريرة رضي الله عنه { : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اغتسل يوم الجمعة ، ثم راح فكأنما قرب بدنة . ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة . ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن . ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة . ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة . فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر } .


الكلام عليه من وجوه :

الأول : اختلف الفقهاء في أن الأفضل التبكير إلى الجمعة أو التهجير . واختار الشافعي التبكير . واختار مالك التهجير واستدل للتبكير بهذا الحديث ، [ ص: 338 ] وحمل الساعات فيه على الأجزاء الزمانية ، التي ينقسم النهار فيها إلى اثني عشر جزءا . والذين اختاروا التهجير يحتاجون إلى الاعتذار عنه . وذلك من وجوه :

أحدها : قد ينازع في أن الساعة حقيقة في هذه الأجزاء في وضع العرب ، واستعمال الشرع ، بناء على أنها تتعلق بحساب ومراجعة آلات تدل عليه ، لم تجر عادة العرب بذلك ، ولا أحال الشرع على اعتبار مثله حوالة لا شك فيها . وإن ثبت ذلك بدليل تجوزوا في لفظ " الساعة " وحملوها على الأجزاء التي تقع فيها المراتب . ولا بد لهم من دليل مؤيد للتأويل على هذا التقدير . وسنذكر منه شيئا .

الوجه الثاني : ما يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم { من اغتسل ، ثم راح } والرواح لا يكون إلا بعد الزوال . فحافظوا على حقيقة " راح " وتجوزوا في لفظ " الساعة " إن ثبت أنها حقيقة في الجزء من اثني عشر . واعترض عليهم في هذا بأن لفظة " راح " يحتمل أن يراد بها مجرد السير في أي وقت كان ، كما أول مالك قوله تعالى { فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } على مجرد السير ، لا على الشد والسرعة هذا معنى قوله . وليس هذا التأويل ببعيد في الاستعمال .

الوجه الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات { فالمهجر كالمهدي بدنة } والتهجير : إنما يكون في الهاجرة . ومن خرج عند طلوع الشمس مثلا ، أو بعد طلوع الفجر ، لا يقال له مهجر . واعترض على هذا بأن يكون المهجر من هجر المنزل وتركه في أي وقت كان وهذا بعيد [ ص: 339 ]

الوجه الرابع : يقتضي الحديث : أنه بعد الساعة الخامسة يخرج الإمام ، وتطوي الملائكة الصحف لاستماع الذكر . وخروج الإمام إنما يكون بعد السادسة . وهذا الإشكال إنما ينشأ إذا جعلنا الساعة هي الزمانية . أما إذا جعلنا ذلك عبارة عن ترتيب منازل السابقين فلا يلزم هذا الإشكال .

الوجه الخامس : يقتضي أن تتساوى مراتب الناس في كل ساعة . فكل من أتى في الأولى كان كالمقرب بدنة . وكل من أتى في الثانية كان كمن قرب بقرة ، مع أن الدليل يقتضي أن السابق لا يساويه اللاحق . وقد جاء في الحديث { ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه } ويمكن أن يقال في هذا : إن التفاوت يرجع إلى الصفات . واعلم أن بعض هذه الوجوه لا بأس به إلا أنه يرد على المذهب الآخر : أنا إذا خرجنا على الساعات الزمانية لم يبق لنا مرد ينقسم فيه الحال إلى خمس مراتب بل يقتضي أن يتفاوت الفضل بحسب تفاوت السبق في الإتيان إلى الجمعة . وذلك يتأتى منه مراتب كثيرة جدا . فإن تبين بدليل أن يكون لنا مرد لا يكون فيه هذا التفاوت الشديد والكثرة في العدد ، فقد اندفع هذا الإشكال . فإن قلت : المراد أن يجعل الوقت من التهجير مقسما على خمسة أجزاء . ويكون ذلك مرادا . قلت لا يصح ذلك لوجهين :

أحدهما : أن الرجوع إلى ما تقرر من تقسيم الساعات إلى اثني عشر أولى ، إذا كان ولا بد من الحوالة على أمر خفي على الجمهور . فإن هذه القسمة لم تعرف لأصحاب هذا العلم ، ولا استعملت على ما استعمله الجمهور . وإنما يندفع بها لو ثبت ذلك الإشكال الذي مضى ، من أن خروج الإمام ليس عقيب الخامسة ، ولا حضور الملائكة لاستماع الذكر .

الثاني : أن القائلين بأن التهجير أفضل لا يقولون بذلك على هذه القسمة . فإن القائل قائلان ، قائل يقول : بترتيب منازل السابقين على غير تقسيم هذه الأجزاء الخمسة . وقائل يقول : تنقسم الأجزاء ستة إلى الزوال . فالقول بتقسيم هذا الوقت إلى خمسة إلى الزوال : يكون مخالفا للكل . وإن كان قد قال به قائل فليكتف بالوجه الأول .

الوجه الثاني من الكلام على الحديث : أنه يقتضي أن البيضة تقرب . وقد ورد في حديث آخر { كالمهدي بدنة ، وكالمهدي بقرة } - إلى آخره فيدل أن هذا التقريب هو الهدي ، وينشأ من هذا : أن اسم " الهدي " هل ينطلق على مثل هذا ؟ [ ص: 340 ] وأن من التزم هديا هل يكفيه مثل هذا ، أم لا ؟ وقد قال به بعض أصحاب الشافعي . وهذا أقرب إلى أن يؤخذ من لفظ ذلك الحديث الذي فيه لفظ " الهدي " من أن يؤخذ من هذا الحديث . ولكن لما كان ذلك تفسيرا لهذا ، ويبين المراد منه ذكرناه ههنا .

الوجه الثالث : لفظ " البدنة " في هذا الحديث ظاهرها أنها منطلقة على الإبل مخصوصة بها ، لأنها قوبلت بالبقر وبالكبش عند الإطلاق ، وقسم الشيء لا يكون قسيما ومقابلا له . وقيل : إن اسم " البدنة " ينطلق على الإبل والبقر والغنم لكن الاستعمال في الإبل أغلب . نقله بعض الفقهاء . وينبني على هذا : ما إذا قال : لله علي أن أضحي ببدنة ، ولم يقيد بالإبل لفظا ولا نية ، وكانت الإبل موجودة فهل تتعين ؟ فيه وجهان للشافعية :

أحدهما : التعين لأن لفظ " البدنة " مخصوصة بالإبل ، أو غالبة فيه . فلا يعدل عنه . والثاني : أنه يقوم مقامها بقرة أو سبع من الغنم ، حملا على ما علم من الشرع من إقامتها مقامها . والأول : أقرب . وإن لم توجد الإبل ، فقيل : يصبر إلى أن توجد ، وقيل : يقوم مقامها البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية