إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
145 - الحديث الرابع : عن جابر رضي الله عنه { قال شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد . فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، بلا أذان ولا إقامة . ثم قام متوكئا على بلال ، فأمر بتقوى الله تعالى ، وحث على طاعته ، ووعظ الناس وذكرهم ، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن ، وقال : يا معشر النساء ، تصدقن . فإنكن أكثر حطب جهنم ، فقامت امرأة من سطة النساء ، سفعاء الخدين فقالت : لم يا رسول الله فقال : لأنكن [ ص: 347 ] تكثرن الشكاة ، وتكفرن العشير . قال : فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن } .


أما البداءة بالصلاة قبل الخطبة ، فقد ذكرناه . وأما عدم الأذان والإقامة لصلاة العيد : فمتفق عليه ، وكأن سببه تخصيص الفرائض بالأذان تمييزا لها بذلك عن النوافل ، وإظهارا لشرفها . وأشار بعضهم إلى معنى آخر ، وهو أنه لو دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليها لوجبت الإجابة . وذلك مناف لعدم وجوبها . فهذا حسن بالنسبة إلى من يرى أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان . وهذه المقاصد التي ذكرها الراوي - من الأمر بتقوى الله ، والحث على طاعته والموعظة والتذكير - : هي مقاصد الخطبة . وقد عد بعض الفقهاء من أركان الخطبة الواجبة : الأمر بتقوى الله وبعضهم : جعل الواجب : ما يسمى خطبة عند العرب . وما يتأدى به الواجب في الخطبة الواجبة تتأدى به السنة في الخطبة المسنونة .

وقوله عليه السلام { تصدقن . فإنكن حطب جهنم } فيه إشارة إلى أن الصدقة من الدوافع للعذاب . وفيه إشارة إلى الإغلاظ في النصح بما لعله يبعث على إزالة العيب ، أو الذنب اللذين يتصف بهما الإنسان . وفيه أيضا : العناية بذكر ما تشتد الحاجة إليه من المخاطبين . وفيه بذل النصيحة لمن يحتاج إليها . وقوله { فقامت امرأة من سطة النساء } فيه لهم وجهان :

أحدهما : ما ذهب إليه بعض الفضلاء الأدباء من الأندلسيين : إنه تغيير ، أي تصحيف من الراوي كأن الأصل : من سفلة النساء ، فاختلطت الفاء باللام . فصارت طاء ، ويؤيد هذا : أنه ورد في كتاب ابن أبي شيبة والنسائي { من سفلة النساء } وفي رواية أخرى { فقامت امرأة من غير علية النساء } .

الوجه الثاني : تقرير اللفظ على الصحة . وهو أن تكون اللفظة أصلها من [ ص: 348 ] الوسط الذي هو الخيار . وبهذا فسره بعضهم من علية النساء وخيارهن . وعن بعض الرواة { من واسطة النساء } وقوله { سعفاء الخدين } الأسفع والسعفاء : من أصاب خده لون يخالف لونه الأصلي ، من سواد أو خضرة أو غيرهما . وتعليله صلى الله عليه وسلم بالشكاة وكفران العشير : دليل على تحريم كفران النعمة . لأنه جعله سببا لدخول النار . وهذا السبب في الشكاية يجوز أن يكون راجعا إلى ما يتعلق بالزوج وجحد حقه . ويجوز أن يكون راجعا إلى ما يتعلق بحق الله من عدم شكره ، والاستكانة لقضائه : وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر ذلك في حق من هذا ذنبه . فكيف بمن له منهن ذنوب أكثر من ذلك ، كترك الصلاة والقذف ؟ وأخذ الصوفية من هذا الحديث : الطلب للفقراء عند الحاجة من الأغنياء . وهذا حسن بهذا الشرط الذي ذكرناه . وفي مبادرة النساء لذلك ، والبذل لما لعلهن يحتجن إليه - مع ضيق الحال في ذلك الزمان - ما يدل على رفيع مقامهن في الدين ، وامتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد يؤخذ منه : جواز تصدق المرأة من مالها في الجملة ، ومن أجاز التصدق مطلقا ، من غير تقييد بمقدار معين ، فلا بد له من أمر زائد على هذا يقرر به العموم في جواز الصدقة . وكذا من خصص بمقدار معين .

التالي السابق


الخدمات العلمية