إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
8 - الحديث الثامن : عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال { شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فدعا بتور من ماء ، فتوضأ لهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكفأ على يديه من التور ، فغسل يديه ثلاثا ، ثم أدخل يده في التور ، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات ، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا ، ثم أدخل يده في التور ، فغسلهما مرتين إلى المرفقين ثم أدخل يده في التور ، فمسح رأسه ، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ثم غسل رجليه وفي رواية بدأ بمقدم رأسه ، حتى ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه } . [ ص: 90 ]

وفي رواية { أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر }

التور : شبه الطست .


عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني المدني : ثقة . روى له الجماعة . وكذلك أبوه ثقة ، اتفقوا عليه .

فيه وجوه :

أحدها عبد الله بن زيد هو زيد بن عاصم : وهو غير زيد بن عبد ربه .

وهذا الحديث لعبد الله بن زيد بن عاصم ، لا لعبد الله بن زيد بن عبد ربه .

وحديث الأذان ورؤيته في المنام لعبد الله بن زيد بن عبد ربه لا لعبد الله بن زيد بن عاصم . فليتنبه لذلك .

فإنه مما يقع فيه الاشتباه والغلط .

الثاني : قوله " فدعا بتور " التور : بالتاء المثناة : الطست . والطست - بكسر الطاء وبفتحها ، وبإسقاط التاء - لغات .

الثالث : فيه دليل على جواز الوضوء من آنية الصفر .

والطهارة جائزة من الأواني الطاهرة كلها ، إلا الذهب والفضة ، للحديث الصحيح الوارد في النهي عن الأكل والشرب فيهما .

وقياس الوضوء على ذلك .

الرابع : ما يتعلق بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء : قد مر .

وقوله " فمضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات " تعرض لكيفية المضمضة والاستنشاق بالنسبة إلى الفصل والجمع ، وعدد الغرفات . والفقهاء اختلفوا في ذلك فمنهم من اختار الجمع . ومنهم من اختار الفصل .

والحديث يدل - والله أعلم - على أنه تمضمض واستنشق من غرفة ، ثم فعل كذلك مرة أخرى ، ثم فعل كذلك مرة أخرى .

وهو محتمل من حيث اللفظ غير ذلك . وهو أن يفاوت بين العدد في المضمضة والاستنشاق ، مع اعتبار ثلاث غرفات ، إلا أنا لا نعلم قائلا به .

مثال ذلك : أن يغرف غرفة ، فيتمضمض بها مرة مثلا . ثم يأخذ غرفة أخرى . فيتمضمض بها مرتين ، ثم يأخذ غرفة أخرى ، فيستنشق بها ثلاثا ، وغير ذلك من الصور التي تعطي هذا المعنى .

فيصدق على هذا أنه : تمضمض ثلاثا ، واستنشق [ ص: 91 ] ثلاثا من ثلاث غرفات .

الخامس : قوله " ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا " قد تقدم القول فيه . وقوله " ويديه إلى المرفقين مرتين " فيه دليل على جواز التكرار ثلاثا في بعض الأعضاء ، واثنتين في بعضها ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء مرة مرة ، ومرتين مرتين ، وثلاثا ثلاثا ، وبعضه ثلاثا ، وبعضه مرتين . وهو هذا الحديث .

السادس : قوله " ثم أدخل يده في التور ، فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة " فيه دليل على التكرار في مسح الرأس ، مع التكرار في غيره ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة .

وورد المسح في بعض الروايات مطلقا ، وفي بعضها مقيدا بمرة واحدة . وقوله " فأقبل بهما وأدبر " اختلف الفقهاء في كيفية الإقبال والإدبار ، على ثلاثة مذاهب .

أحدها : أن يبدأ بمقدم الرأس الذي يلي الوجه ، ويذهب إلى القفا ، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه ، وهو مبدأ الشعر في حد الوجه ، وعلى هذا يدل ظاهر قوله " بدأ بمقدم رأسه ، حتى ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه " وهو مذهب مالك والشافعي . إلا أنه ورد على هذا الإطلاق - أعني إطلاق قوله " فأقبل بهما وأدبر " - إشكال من حيث إن هذه الصيغة تقتضي أنه أدبر بهما وأقبل ; لأن ذهابه إلى جهة القفا إدبار ، ورجوعه إلى جهة الوجه إقبال .

فمن الناس من اعتقد أن هذه الصيغة المتقدمة التي دل عليها ظاهر الحديث المفسر وهو قوله " بدأ بمقدم رأسه . .. إلخ " .

وأجاب عن هذا السؤال بأن " الواو " لا تقتضي الترتيب . فالتقدير : أدبر وأقبل . وعندي فيه جواب آخر ; وهو أن " الإقبال والإدبار " من الأمور الإضافية أعني : أنه ينسب إلى ما يقبل إليه ، ويدبر عنه ، فيمكنه حمله على هذا .

ويحتمل أن يريد بالإقبال : الإقبال على الفعل لا غير ويضعفه قوله " وأدبر مرة واحدة " . ومن الناس من قال : يبدأ بمؤخر رأسه ويمر إلى جهة الوجه ، ثم يرجع إلى [ ص: 92 ] المؤخر ، محافظة على ظاهر قوله " أقبل وأدبر " وينسب الإقبال : إلى مقدم الوجه ، والإدبار : إلى ناحية المؤخر .

وهذا يعارضه الحديث المفسر لكيفية الإقبال والإدبار . وإن كان يؤيده ما ورد في حديث الربيع { أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بمؤخر رأسه } فقد يحمل ذلك على حالة ، أو وقت .

ولا يعارض ذلك الرواية الأخرى ، لما ذكرناه من التفسير . ومن الناس من قال : يبدأ بالناصية ، ويذهب إلى ناحية الوجه ، ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس ثم يعود إلى ما بدأ منه ، وهو الناصية .

وكأن هذا قد قصد المحافظة على قوله " بدأ بمقدم الرأس " [ مع المحافظة على ظاهر " أقبل وأدبر " ] فإنه إذا بدأ بالناصية صدق أنه بدأ بمقدم رأسه ، وصدق أنه أقبل أيضا .

فإنه ذهب إلى ناحية الوجه ، وهو القبل . إلا أن قوله في الرواية المفسرة " بدأ بمقدم رأسه ، حتى ذهب بهما إلى قفاه " قد يعارض هذا .

فإنه جعله بادئا بالمقدم إلى غاية الذهاب إلى قفاه . وهذه الصفة التي قالها هذا القائل - تقتضي أنه بدأ بمقدم رأسه ، غير ذاهب إلى قفاه ، بل إلى ناحية وجهه : وهو مقدم الرأس .

ويمكن أن يقول هذا القائل - الذي اختار هذه الصفة الأخيرة - : إن البداءة بمقدم الرأس ممتد إلى غاية الذهاب إلى المؤخر ، وابتداء الذهاب من حيث الرجوع من منابت الشعر من ناحية الوجه إلى القفا . والحديث إنما جعل البداءة بمقدم الرأس ممتدا إلى غاية الذهاب إلى القفا ، لا إلى غاية الوصول إلى القفا وفرق بين الذهاب إلى القفا ، وبين الوصول إليه . فإذا جعل هذا القائل الذهاب إلى القفا من حيث الرجوع من مبتدأ الشعر من ناحية الوجه إلى جهة القفا : صح أنه ابتدأ بمقدم الرأس ممتدا إلى غاية الذهاب إلى جهة القفا .

وقد تقدم ما يتعلق بغسل الرجلين والعدد فيهما ، أو عدم العدد . والرواية الأخيرة : مصرحة بالوضوء من الصفر .

وهي رواية عبد العزيز بن أبي سلمة . وهي مصرحة بالحقيقة في قوله " تور من صفر " وفي الرواية الأولى مجاز ، أعني قوله " من تور من ماء " ويمكن أن يحمل الحديث على : من إناء [ ص: 93 ] ماء ، وما أشبه ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية