إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
152 - الحديث الثاني : عن أنس بن مالك رضي الله عنه { أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب ، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ، ثم قال : يا رسول الله ، هلكت الأموال ، وانقطعت السبل فادع الله تعالى يغيثنا ، قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا . قال أنس : فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال : فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس . فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت ، قال : فلا والله ما رأينا الشمس سبتا ، قال : ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب الناس ، فاستقبله قائما ، فقال : يا رسول الله ، [ ص: 359 ] هلكت الأموال ، وانقطعت السبل ، فادع الله أن يمسكها عنا ، قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر ، قال : فأقلعت ، وخرجنا نمشي في الشمس . قال شريك : فسألت أنس بن مالك : أهو الرجل الأول قال : لا أدري . }


قال رحمه الله " الظراب " الجبال الصغار هذا هو الحديث الذي أشرنا إليه أنه استدل به لأبي حنيفة في ترك الصلاة والذي دل على الصلاة واستحبابها لا ينافي أن يقع مجرد الدعاء في حالة أخرى . وإنما كان هذا الذي جرى في الجمعة مجرد دعاء . وهو مشروع حيثما احتيج إليه . ولا ينافي شرعية الصلاة في حالة أخرى إذا اشتدت الحاجة إليها . وفي الحديث : علم من أعلام النبوة في إجابة الله تعالى دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيبه أو معه . وأراد بالأموال : الأموال الحيوانية . لأنها التي يؤثر فيها انقطاع المطر ، بخلاف الأموال الصامتة . و " السبل " الطرق وانقطاعها : إما بعدم المياه التي يعتاد المسافر ورودها . وإما باشتغال الناس وشدة القحط عن الضرب في الأرض . وفيه دليل على استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء فمن الناس من عداه إلى كل دعاء . ومنهم من لم يعده ، لحديث عن أنس يقتضي ظاهره عدم عموم الرفع لما عدا الاستسقاء .

وفي حديث آخر : استثناء ثلاثة مواضع : منها الاستسقاء ، ورؤية البيت ، وقد أول ذلك على أن يكون المراد : رفعا تاما في هذه المواضع . وفي غيرها : دونه . بدليل أنه صح رفع اليدين عنه صلى الله عليه وسلم في غير تلك [ ص: 360 ] المواضع . وصنف في ذلك شيخنا أبو محمد المنذري رحمه الله جزءا قرأته عليه . " والقزع " سحاب متفرق " والقزعة " واحدته . ومنه أخذ القزع في الرأس وهو أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه . و " سلع " جبل عند المدينة ، وقوله " وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار " تأكيد لقوله " وما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة " لأنه أخبر أن السحابة طلعت من وراء سلع . فلو كان بينهم وبينه لأمكن أن تكون القزعة موجودة ، لكن حال بينهم وبين رؤيتها ما بينهم وبين سلع من دار لو كانت . وقوله " ما رأينا الشمس سبتا " أي جمعة . وقد بين في رواية أخرى . وقوله في الجمعة الثانية " هلكت الأموال " أي بكثرة المطر . وفيه دليل على الدعاء لإمساك ضرر المطر . كما استحب الدعاء لنزوله عند انقطاعه . فإن الكل مضر . و " الآكام " جمع أكم ، كأعناق جمع عنق . والأكم جمع إكام مثل كتب جمع كتاب . والإكام جمع أكم ، مثل جبال جمع جبل . والأكم ، والأكمات . جمع الأكمة ، وهي التل المرتفع من الأرض . " والظراب " جمع ظرب - بفتح الظاء وكسر الراء - وهي صغار الجبال . وقوله " وبطون الأودية ومنابت الشجر " طلب لما يحصل المنفعة ويدفع المضرة . وقوله " وخرجنا نمشي في الشمس " علم آخر من أعلام النبوة في الاستصحاء كما سبق مثله في الاستسقاء

والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية