إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
175 - الحديث السادس : عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال { لما أفاء الله على رسوله يوم حنين : قسم في الناس ، وفي المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا . فكأنهم وجدوا في أنفسهم ، إذ لم يصبهم ما أصاب الناس . فخطبهم ، فقال : يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟ كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن . قال : ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله ؟ قالوا : الله ورسوله أمن قال : لو شئتم لقلتم : جئتنا كذا وكذا . ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم ؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها . الأنصار شعار ، والناس دثار . إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض . }


في الحديث دليل على إعطاء المؤلفة قلوبهم ، إلا أن هذا ليس من الزكاة فلا يدخل في بابها ، إلا بطريق أن يقاس إعطاؤهم من الزكاة على إعطائهم من الفيء والخمس . وقوله " فكأنهم وجدوا في أنفسهم " تعبير حسن كسي حسن الأدب في الدلالة على ما كان في أنفسهم ، وفي الحديث دليل على إقامة الحجة عند الحاجة [ ص: 387 ] إليها على الخصم . وهذا " الضلال " المشار إليه ضلال الإشراك والكفر . والهداية بالإيمان . ولا شك أن نعمة الإيمان أعظم النعم ، بحيث لا يوازيها شيء من أمور الدنيا . ثم أتبع ذلك بنعمة الألفة ، وهي أعظم من نعمة الأموال . إذ تبذل الأموال في تحصيلها وقد كانت الأنصار في غاية التباعد والتنافر ، وجرت بينهم حروب قبل المبعث . منها : يوم بعاث

ثم أتبع ذلك بنعمة الغنى والمال . وفي جواب الصحابة رضي الله عنهم بما أجابوه : استعمال الأدب ، والاعتراف بالحق الذي كنى عنه بقول الراوي " كذا وكذا " وقد تبين مصرحا به في رواية أخرى . فتأدب الراوي بالكناية ، في جملة ذلك : جبر للأنصار ، وتواضع وحسن مخاطبة ومعاشرة . وفي قوله عليه السلام { ألا ترضون - إلى آخرها } إثارة لأنفسهم وتنبيه على ما وقعت الغفلة عنه من عظم ما أصابهم بالنسبة إلى ما أصاب غيرهم من عرض الدنيا . وفي قوله عليه السلام " لولا الهجرة " وما بعده : إشارة عظيمة بفضيلة الأنصار . وقوله " لكنت امرأ من الأنصار " أي في الأحكام والعداد ، والله أعلم . ولا يجوز أن يكون المراد : النسب قطعا . وقوله { الأنصار شعار ، والناس دثار } الشعار " الثوب الذي يلي الجسد ، و " الدثار " الثوب الذي فوقه ، واستعمال اللفظين مجاز عن قربهم واختصاصهم ، وتمييزهم على غيرهم في ذلك . وقوله عليه السلام { إنكم ستلقون بعدي أثرة } علم من أعلام النبوة إذ هو إخبار عن أمر مستقبل وقع على ما أخبر به صلى الله عليه وسلم . والمراد بالأثرة : استئثار الناس عليهم بالدنيا ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية