إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
باب أفضل الصيام وغيره 197 - الحديث الأول : عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما [ ص: 413 ] قال { أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول : والله لأصومن النهار ، ولأقومن الليل ما عشت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت الذي قلت ذلك ؟ فقلت له : قد قلته ، بأبي أنت وأمي . فقال : فإنك لا تستطيع ذلك . فصم وأفطر ، وقم ونم . وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها . وذلك مثل صيام الدهر . قلت : فإني أطيق أفضل من ذلك . قال : فصم يوما وأفطر يومين . قلت : أطيق أفضل من ذلك . قال : فصم يوما وأفطر يوما . فذلك مثل صيام داود . وهو أفضل الصيام . فقلت : إني أطيق أفضل من ذلك . قال : لا أفضل من ذلك . }

وفي رواية { لا صوم فوق صوم أخي داود - شطر الدهر - صم يوما وأفطر يوما } .


فيه ست مسائل الأولى : " صوم الدهر " ذهب جماعة إلى جوازه . منهم مالك والشافعي . ومنعه الظاهرية ، للأحاديث التي وردت فيه ، كقوله عليه السلام { لا صام من صام الأبد } وغير ذلك . وتأول مخالفوهم هذا على من صام الدهر ، وأدخل فيه الأيام المنهي عن صومها ، كيومي العيدين وأيام التشريق . وكأن هذا محافظة على حقيقة صوم الأبد . فإن من صام هذه الأيام ، مع غيرها : هو الصائم للأبد . ومن أفطر فيها لم يصم الأبد ، إلا أن في هذا خروجا عن الحقيقة الشرعية ، وهو مدلول لفظة " صام " فإن هذه الأيام غير قابلة للصوم شرعا . إذ لا يتصور فيها حقيقة الصوم ، فلا يحصل حقيقة " صام " شرعا لمن أمسك في هذه الأيام .

فإن وقعت المحافظة على حقيقة لفظ " الأبد " فقد وقع الإخلال بحقيقة لفظ " صام " شرعا ، فيجب أن يحمل ذلك على الصوم اللغوي . وإذا تعارض مدلول اللغة ومدلول الشرع في ألفاظ صاحب الشرع ، حمل على الحقيقة الشرعية . [ ص: 414 ]

ووجه آخر : وهو أن تعليق الحكم بصوم الأبد يقتضي ظاهره " أن الأبد " متعلق الحكم من حيث هو " أبد " فإذا وقع الصوم في هذه الأيام ، فعلة الحكم : وقوع الصوم في الوقت المنهي عنه وعليه ترتب الحكم . ويبقى ترتيبه على مسمى الأبد غير واقع . فإنه إذا صام هذه الأيام تعلق به الذم ، سواء صام غيرها أو أفطر ولا يبقى متعلق الذم عليه صوم الأبد ، بل هو صوم هذه الأيام ، إلا أنه لما كان صوم الأبد يلزم منه صوم هذه الأيام : تعلق به الذم ، لتعلقه بلازمه الذي لا ينفك عنه . فمن ههنا نظر المتأولون بهذا التأويل فتركوا التعليل بخصوص صوم الأبد .

المسألة الثانية : كره جماعة قيام كل الليل . لرد النبي ذلك على من أراده ، ولما يتعلق به من الإجحاف بوظائف عديدة

وفعله جماعة من المتعبدين من السلف وغيرهم . ولعلهم حملوا الرد على طلب الرفق بالمكلف . وهذا الاستدلال على الكراهة بالرد المذكور عليه سؤال ، وهو أن يقال : إن الرد لمجموع الأمرين وهو صيام النهار ، وقيام الليل فلا يلزم ترتبه على أحدهما .

المسألة الثالثة : قوله عليه السلام " إنك لا تستطيع ذلك " تطلق عدم الاستطاعة بالنسبة إلى المتعذر مطلقا ، وبالنسبة إلى الشاق على الفاعل . وعليهما ذكر الاحتمال في قوله تعالى : { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } فحمله بعضهم على المستحيل ، حتى أخذ منه جواز تكليف المحال . وحمله بعضهم على ما يشق . وهو الأقرب . فقوله عليه السلام " لا تستطيع ذلك " محمول على أنه يشق ذلك عليك ، على الأقرب . ويمكن أن يحمل ذلك على الممتنع : إما على تقدير أن يبلغ من العمر ما يتعذر معه ذلك . وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بطريق ، أو في ذلك التزام لأوقات تقتضي العادة أنه لا بد من وقوعها ، مع تعذر ذلك فيها ، ويحتمل أن يكون قوله " لا تستطيع ذلك " مع القيام ببقية المصالح المرعية شرعا .

المسألة الرابعة : فيه دليل على استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر

وعلته مذكورة في الحديث . واختلف الناس في تعيينها من الشهر اختلافا في تعيين الأحب والأفضل لا غير . وليس في الحديث ما يدل على شيء من ذلك . فأضربنا عن ذكره .

المسألة الخامسة : قوله عليه السلام " وذلك مثل صيام الدهر " مؤول [ ص: 415 ] عندهم على أنه مثل أصل صيام الدهر من غير تضعيف للحسنات . فإن ذلك التضعيف مرتب على الفعل الحسي الواقع في الخارج . والحامل على هذا التأويل : أن القواعد تقتضي أن المقدر لا يكون كالمحقق ، وأن الأجور تتفاوت بحسب تفاوت المصالح ، أو المشقة في الفعل . فكيف يستوي من فعل الشيء بمن قدر فعله له فلأجل ذلك قيل : إن المراد أصل الفعل في التقدير ، لا الفعل المرتب عليه التضعيف في التحقيق

وهذا البحث يأتي في مواضع . ولا يختص بهذا الموضع .

ومن ههنا يمكن أن يجاب عن الاستدلال بهذا اللفظ وشبهه على جواز صوم الدهر ، من حيث إنه ذكر للترغيب في فعل هذا الصوم . ووجه الترغيب : أنه مثل بصوم الدهر . ولا يجوز أن تكون جهة الترغيب هي جهة الذم .

وسبيل الجواب : أن الذم - عند من قال به - متعلق بالفعل الحقيقي ، ووجه الترغيب ههنا : حصول الثواب على الوجه التقديري . فاختلفت جهة الترغيب وجهة الذم ، وإن كان هذا الاستنباط الذي ذكر لا بأس به ، ولكن الدلائل الدالة على كراهة صوم الدهر أقوى منه دلالة . والعمل بأقوى الدليلين واجب ، والذين أجازوا صوم الدهر حملوا النهي على ذي عجز أو مشقة ، أو ما يقرب من ذلك ، من لزوم تعطيل مصالح راجحة على الصوم ، أو متعلقة بحق الغير كالزوجة مثلا . .

المسألة السادسة : قوله عليه السلام في صوم داود " وهو أفضل الصيام " ظاهر قوي في تفضيل هذا الصوم على صوم الأبد . والذين قالوا بخلاف ذلك : نظروا إلى أن العمل متى كان أكثر كان الأجر أوفر . هذا هو الأصل . فاحتاجوا إلى تأويل هذا . وقيل فيه : إنه أفضل الصيام بالنسبة إلى من حاله مثل حالك ، أي من يتعذر عليه الجمع بين الصوم الأكثر وبين القيام بالحقوق . والأقرب عندي : أن يجرى على ظاهر الحديث في تفضيل صيام داود عليه السلام ، والسبب فيه : أن الأفعال متعارضة المصالح والمفاسد .

وليس كل ذلك معلوما لنا ولا مستحضرا ، وإذا تعارضت المصالح والمفاسد ، فمقدار تأثير كل واحد منها في الحث والمنع غير محقق لنا . فالطريق حينئذ أن نفوض الأمر إلى صاحب الشرع ، ونجري على ما دل عليه ظاهر اللفظ مع قوة الظاهر ههنا . وأما زيادة العمل واقتضاء القاعدة لزيادة [ ص: 416 ] الأجر بسببه : فيعارضه اقتضاء العادة والجبلة للتقصير في حقوق يعارضها الصوم الدائم ، ومقادير ذلك الفائت مع مقادير ذلك الحاصل من الصوم غير معلوم لنا . وقوله عليه السلام " لا صوم فوق صوم داود " يحمل على أنه لا فوقه في الفضيلة المسئول عنها .

التالي السابق


الخدمات العلمية