إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
12 - الحديث الثاني : عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا أتيتم الغائط ، فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ، ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا أو غربوا } .

قال أبو أيوب : " فقدمنا الشام ، فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة ، فننحرف عنها ، ونستغفر الله عز وجل " .


الغائط المطمئن من الأرض ينتابونه للحاجة . فكنوا به عن نفس الحدث ، كراهية لذكره بخاص اسمه " والمراحيض " جمع المرحاض . وهو المغتسل . وهو أيضا كناية عن موضع التخلي .

الكلام عليه من وجوه :

أحدها " أبو أيوب الأنصاري اسمه خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة نجاري ، شهد بدرا . ومات في زمن يزيد بن معاوية . وقال خليفة : مات بأرض الروم سنة خمسين . وذلك في زمن معاوية . وقيل : في سنة اثنتين وخمسين بالقسطنطينية .

الثاني : قوله " إذا أتيتم الخلاء " استعمل " الخلاء " في قضاء الحاجة كيف كان . ; لأن هذا الحكم عام في جميع صور قضاء الحاجة .

وهو إشارة إلى ما قدمناه من استعمال هذه اللفظة مجازا .

الثالث : الحديث دليل على المنع من استقبال القبلة واستدبارها . والفقهاء اختلفوا في هذا الحكم على مذاهب فمنهم من منع ذلك مطلقا ، على مقتضى [ ص: 98 ] ظاهر هذا الحديث .

ومنهم من أجازه مطلقا ، ورأى أن هذا الحديث منسوخ وزعم أن ناسخه حديث مجاهد عن جابر قال { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول . فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها } وممن نقل عنه الترخيص في ذلك مطلقا : عروة بن الزبير ، وربيعة بن عبد الرحمن . ومنهم من فرق بين الصحاري والبنيان فمنع في الصحاري ، وأجاز في البنيان ، بناء على أن ابن عمر روى الحديث الذي يأتي ذكره بعد هذا الحديث في البنيان .

فجمع بين الأحاديث ، فحمل حديث أبي أيوب - وما في معناه - على الصحاري ، وحمل حديث ابن عمر على البنيان . وقد روى الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر قال " رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها . فقلت : أبا عبد الرحمن ، أليس قد نهي عن هذا ؟ فقال : بلى إنما نهي عن ذلك في الفضاء . فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس " أخرجه أبو داود .

واعلم أن حمل حديث أبي أيوب على الصحاري مخالف لما حمله عليه أبو أيوب من العموم . فإنه قال " فأتينا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة ، فننحرف عنها " فرأى النهي عاما .

الرابع : اختلفوا في علة هذا النهي من حيث المعنى . والظاهر : أنه لإظهار الاحترام والتعظيم للقبلة . ; لأنه معنى مناسب ورد الحكم على وفقه ، فيكون علة له . وأقوى من هذا في الدلالة على هذا التعليل : ما روي من حديث سلمة بن وهرام عن سراقة بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا أتى أحدكم البراز . فليكرم قبلة الله عز وجل ، ولا يستقبل القبلة } وهذا ظاهر قوي في التعليل بما ذكرناه . ومنهم من علل بأمر آخر .

فذكر عيسى بن أبي عيسى قال : قلت للشعبي - هو بفتح الشين المعجمة ، وسكون العين المهملة - عجبت لقول أبي هريرة ونافع عن ابن عمر قال : وما قالا ؟ قلت : قال أبو هريرة " لا تستقبلوا القبلة ولا [ ص: 99 ] تستدبروها " وقال نافع عن ابن عمر " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ذهب مذهبا مواجه القبلة " قال : أما قول أبي هريرة : ففي الصحراء ، إن لله خلقا من عباده يصلون في الصحراء ، فلا تستقبلوهم ، ولا تستدبروهم وأما بيوتكم هذه التي تتخذونها للنتن فإنه لا قبلة لها .

وذكر الدارقطني : أن عيسى هذا ضعيف . وينبني على هذا الخلاف في التعليل اختلافهم فيما إذا كان في الصحراء ، فاستتر بشيء : هل يجوز الاستقبال والاستدبار أم لا ؟ فالتعليل باحترام القبلة : يقتضي المنع ، والتعليل برؤية المصلين : يقتضي الجواز .

الخامس : قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أتيتم الخلاء ، فلا تستقبلوا القبلة - الحديث " يقتضي أمرين :

أحدهما : ممنوع منه .

والثاني : علة لذلك المنع . وقد تكلمنا عن العلة . والكلام الآن على محل العلة .

فالحديث دل على المنع من استقبالها لغائط أو بول ، وهذه الحالة تتضمن أمرين :

أحدهما : خروج الخارج المستقذر .

والثاني : كشف العورة ، فمن الناس من قال : المنع للخارج ، لمناسبته لتعظيم القبلة عنه .

ومنهم من قال : المنع لكشف العورة . وينبني على هذا الخلاف : خلافهم في جواز الوطء مستقبل القبلة مع كشف العورة ، فمن علل بالخارج أباحه ، إذ لا خارج . ومن علل بالعورة منعه .

السادس : " الغائط " في الأصل : هو المكان المطمئن من الأرض ، كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ، ثم استعمل في الخارج . وغلب هذا الاستعمال على الحقيقة الوضعية ، فصار حقيقة عرفية .

والحديث يقتضي أن اسم " الغائط " لا ينطلق على البول ، لتفرقته بينهما . وقد تكلموا في أن قوله تعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط } هل يتناول الريح مثلا ، أو البول أو لا ؟ بناء على أنه يخصص لفظ " الغائط " لما كانت العادة أن يقصد لأجله ، وهو الخارج من الدبر ، ولم يكونوا يقصدون الغائط للريح مثلا .

أو يقال : إنه مستعمل فيما كان يقع عند قصدهم الغائط من الخارج من القبل أو الدبر كيف كان .

والسابع : قوله " ولكن شرقوا أو غربوا " محمول على محل يكون التشريق والتغريب فيه مخالفا لاستقبال القبلة واستدبارها ، كالمدينة التي هي مسكن رسول [ ص: 100 ] الله صلى الله عليه وسلم وما في معناها من البلاد ، ولا يدخل تحته ما كانت القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب .

الثامن : قول أبي أيوب " فقدمنا الشام إلخ " فيه ما قدمناه ثمة من حمله له على العموم بالنسبة إلى البنيان والصحاري ، وفيه دليل على أن للعموم صيغة عند العرب وأهل الشرع ، على خلاف ما ذهب إليه بعض الأصوليين . وهذا - أعني استعمال صيغة العموم - فرد من الأفراد ، له نظائر لا تحصى ، وإنما نبهنا عليه على سبيل ضرب المثل ، فمن أراد أن يقف على ذلك فليتتبع نظائرها يجدها .

التاسع : أولع بعض أهل العصر - وما يقرب منه - بأن قالوا : إن صيغة العموم إذا وردت على الذوات مثلا أو على الأفعال .

كانت عامة في ذلك ، مطلقة في الزمان والمكان ، والأحوال والمتعلقات . ثم يقولون : المطلق يكفي في العمل به صورة واحدة . فلا يكون حجة فيما عداه . وأكثروا من هذا السؤال فيما لا يحصى من ألفاظ الكتاب والسنة . وصار ذلك ديدنا لهم في الجدال . وهذا عندنا باطل ، بل الواجب : أن ما دل على العموم في الذوات - مثلا - يكون دالا على ثبوت الحكم في كل ذات تناولها اللفظ . ولا تخرج عنها ذات إلا بدليل يخصه .

فمن أخرج شيئا من تلك الذوات ، فقد خالف مقتضى العموم . نعم المطلق يكفي العمل به مرة ، كما قالوه . ونحن لا نقول بالعموم في هذه المواضع من حيث الإطلاق ، وإنما قلنا به من حيث المحافظة على ما تقتضيه صيغة العموم في كل ذات . فإن كان المطلق مما لا يقتضي العمل به مرة واحدة مخالفة لمقتضى صيغة العموم : اكتفينا في العمل به مرة واحدة .

وإن كان العمل به مما يخالف مقتضى صيغة العموم . قلنا بالعموم محافظة على مقتضى صيغته ، لا من حيث إن المطلق يعم ، مثال ذلك : إذا قال : من دخل داري فأعطه درهما .

فمقتضى الصيغة : العموم في كل ذات صدق عليها أنها داخلة . فإن قال قائل : هو مطلق في الأزمان ، فأعمل به في الذوات الداخلة الدار في أول النهار مثلا ، ولا أعمل به في غير ذلك الوقت ; لأنه مطلق في الزمان ، وقد عملت به مرة ، فلا يلزم أن أعمل به مرة أخرى ، لعدم عموم المطلق . [ ص: 101 ]

قلنا له : لما دلت الصيغة على العموم في كل ذات دخلت الدار ، ومن جملتها : الذوات الداخلة في آخر النهار . فإذا أخرجت تلك الذوات فقد أخرجت ما دلت الصيغة على دخوله .

وهي كل ذات . وهذا الحديث أحد ما يستدل به على ما قلنا . فإن أبا أيوب من أهل اللسان والشرع ، وقد استعمل قوله " لا تستقبلوا ولا تستدبروا " عاما في الأماكن . وهو مطلق فيها . وعلى ما قال هؤلاء المتأخرون : لا يلزم منه العموم ، وعلى ما قلناه : يعم ; لأنه إذا أخرج عنه بعض الأماكن خالف صيغة العموم في النهي عن الاستقبال والاستدبار .

العاشر : قوله " ونستغفر الله " قيل : يراد به ونستغفر الله لباني الكنف على هذه الصورة الممنوعة عنده . وإنما حملهم على هذا التأويل : أنه إذا انحرف عنها لم يفعل ممنوعا . فلا يحتاج إلى الاستغفار . والأقرب : أنه استغفار لنفسه . ولعل ذلك ; لأنه استقبل واستدبر بسبب موافقته لمقتضى البناء غلطا أو سهوا . فيتذكر فينحرف ، ويستغفر الله .

فإن قلت : فالغالط والساهي لم يفعلا إثما . فلا حاجة به إلى الاستغفار . قلت : أهل الورع والمناصب العلية في التقوى قد يفعلون مثل هذا ، بناء على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في [ عدم ] التحفظ ابتداء . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية