إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
13 - الحديث الثالث : عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : { رقيت يوما على بيت حفصة ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام ، مستدبر الكعبة } . وفي رواية " مستقبلا بيت المقدس " .


" " عبد الله بن عمر " بن الخطاب . تقدم نسبه في ذكر أبيه رضي الله عنهما [ ص: 102 ] كنيته أبو عبد الرحمن ، أحد أكابر الصحابة علما ودينا . توفي سنة ثلاث وسبعين ، وقيل سنة أربع وسبعين . وقال مالك : بلغ ابن عمر سبعا وثمانين سنة . هذا الحديث يعارض حديث أبي أيوب المتقدم من وجه ، وكذلك ما في معنى حديث أبي أيوب .

واختلف الناس في كيفية العمل به ، أو بالأول ؟ على أقوال . فمنهم من رأى أنه ناسخ لحديث المنع . واعتقد الإباحة مطلقا ، وكأنه رأى أن تخصيص حكمه بالبنيان مطرح ، وأخذ دلالته على الجواز مجردة عن اعتبار خصوص كونه في البنيان لاعتقاده أنه وصف ملغى ، لا اعتبار به . ومنهم من رأى العمل بالحديث الأول وما في معناه . واعتقد هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم . ومنهم من جمع بين الحديثين .

فرأى حديث ابن عمر مخصوصا بالبنيان ، فيخص به حديث أبي أيوب العام في البنيان وغيره ، جمعا بين الدليلين . ومنهم من توقف في المسألة . ونحن ننبه ههنا على أمرين :

أحدهما : أن من قال بتخصيص هذا الفعل بالنبي صلى الله عليه وسلم له أن يقول : إن رؤية هذا الفعل كان أمرا اتفاقيا ، لم يقصده ابن عمر ، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة يتعرض لرؤية أحد . فلو كان يترتب على هذا الفعل حكم عام للأمة لبينه لهم بإظهاره بالقول ، أو الدلالة على وجود الفعل . فإن الأحكام العامة للأمة لا بد من بيانها .

فلما لم يقع ذلك - وكانت هذه الرؤية من ابن عمر على طريق الاتفاق ، وعدم قصد الرسول صلى الله عليه وسلم - دل ذلك على الخصوص به صلى الله عليه وسلم وعدم العموم في حق الأمة وفيه بعد ذلك بحث .

التنبيه الثاني : أن الحديث : إذا كان عام الدلالة . وعارضه غيره في بعض الصور ، وأردنا التخصيص - فالواجب أن نقتصر في مخالفة مقتضى العموم على مقدار الضرورة ، ويبقى الحديث العام على مقتضى عمومه فيما يبقى من الصور ، إذ لا معارض له فيما عدا تلك الصور المخصوصة التي ورد فيها الدليل الخاص .

وحديث ابن عمر لم يدل على جواز الاستقبال والاستدبار معا في البنيان . وإنما ورد في الاستدبار فقط . فالمعارضة بينه وبين حديث أبي أيوب إنما هي في الاستدبار . فيبقى الاستقبال لا معارض له فيه . فينبغي أن يعمل بمقتضى حديث [ ص: 103 ] أبي أيوب في المنع من الاستقبال مطلقا ، لكنهم أجازوا الاستقبال والاستدبار معا في البنيان . وعليه هذا السؤال .

هذا لو كان في حديث أبي أيوب لفظ واحد يعم الاستقبال والاستدبار ، فيخرج منه الاستدبار ، ويبقى الاستقبال على ما قررناه آنفا . ولكن ليس الأمر كذلك . بل هما جملتان ، دلت إحداهما على الاستقبال ، والأخرى على الاستدبار .

تناول حديث ابن عمر إحداهما ، وهي عامة في محلها . وحديثه خاص ببعض صور عمومها . والجملة الأخرى : لم يتناولها حديث ابن عمر . فهي باقية على حالها .

ولعل قائلا يقول : أقيس الاستقبال في البنيان - وإن كان مسكوتا عنه - على الاستدبار الذي ورد فيه الحديث .

فيقال له : أولا : في هذا تقديم القياس على مقتضى اللفظ العام . وفيه ما فيه ، على ما عرف في أصول الفقه .

وثانيا : إن شرط القياس مساواة الفرع للأصل ، أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم . ولا تساوي ههنا . فإن الاستقبال يزيد في القبح على الاستدبار ، على ما يشهد به العرف . ولهذا اعتبر بعض العلماء هذا المعنى ، فمنع الاستقبال وأجاز الاستدبار . وإذا كان الاستقبال أزيد في القبح من الاستدبار : فلا يلزم من إلغاء المفسدة الناقصة في القبح في حكم الجواز إلغاء المفسدة الزائدة في القبح في حكم الجواز .

التالي السابق


الخدمات العلمية