إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
[ ص: 430 ] 212 - الحديث الأول : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة : ذا الحليفة . ولأهل الشام : الجحفة . ولأهل نجد : قرن المنازل . ولأهل اليمن : يلملم . هن لهم ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ، ممن أراد الحج أو العمرة . ومن كان دون ذلك : فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة . }


" الحج " بفتح الحاء وكسرها : القصد في اللغة . وفي الشرع : قصد مخصوص إلى محل مخصوص ، على وجه مخصوص .

وقوله " وقت " قيل : إن التوقيت في الأصل ذكر الوقت . والصواب أن يقال : تعليق الحكم بالوقت ، ثم استعمل في التحديد للشيء مطلقا ; لأن التوقيت تحديد بالوقت ، فيصير التحديد من لوازم التوقيت فيطلق عليه التوقيت . وقوله ههنا " وقت " يحتمل أن يراد به : التحديد . أي حد هذه المواضع للإحرام ، ويحتمل أن يراد بذلك : تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بشرط إرادة الحج أو العمرة . ومعنى توقيت هذه الأماكن للإحرام : أنه لا يجوز [ ص: 431 ] مجاوزتها لمريد الحج أو العمرة إلا محرما ، وإن لم يكن لفظة " وقت " من حيث هي هي تصريح بالوجوب . فقد ورد في غير هذه الرواية " يهل أهل المدينة " وهي صيغة خبر ، يراد به الأمر . وورد أيضا في بعض الروايات لفظة الأمر ، وفي ذكره هذه المواقيت مسائل .

الأولى : أن توقيتها متفق عليه لأرباب هذه الأماكن وأما إيجاب الدم لمجاوزتها عند الجمهور : فمن غير هذا الحديث ونقل عن بعضهم : أن مجاوزها لا يصح حجه ، وله إلمام بهذا الحديث من وجه . وكأنه يحتاج إلى مقدمة أخرى من حديث آخر أو غيره .

الثانية : " ذو الحليفة " بضم الحاء المهملة ، وفتح اللام . أبعد المواقيت من مكة وهي على عشر مراحل أو تسع منها .

و " الجحفة " بضم الجيم وسكون الحاء . قيل : سميت بذلك ; لأن السيل اجتحفها في بعض الزمان . وهي على ثلاث مراحل من مكة ، ويقال لها " مهيعة " بفتح الميم وسكون الهاء ، وقيل : بكسر الهاء و " قرن المنازل " بفتح القاف وسكون الراء ، وصاحب الصحاح ذكر فتح الراء ، وغلط في ذلك ، كما غلط في أن أويسا القرني " منسوب إليها ، وإنما هو منسوب إلى " قرن " بفتح القاف والراء ، بطن من مراد ، كما بين في الحديث الذي فيه ذكر طلب عمر له .

و " يلملم " بفتح الياء واللام وسكون الميم بعدها . ويقال فيه " ألملم " قيل : هي على مرحلتين من مكة ، وكذلك " قرن " على مرحلتين أيضا .

الثالثة : الضمير في قوله " هن " لهذه المواقيت . " لهن " أي لهذه الأماكن : المدينة ، والشام ، ونجد واليمن .

وجعلت هذه المواقيت لها ، والمراد [ ص: 432 ] أهلها . والأصل أن يقال " هن لهم " ; لأن المراد الأهل ، وقد ورد ذلك في بعض الروايات على الأصل .

الرابعة : قوله " ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " يقتضي : أنه إذا مر بهن من ليس بميقاته : أحرم منهن ، ولم يجاوزهن غير محرم . ومثل ذلك بأهل الشام ، يمر أحدهم بذي الحليفة . فيلزمه الإحرام منها ، ولا يتجاوزها إلى الجحفة التي هي ميقاته ، وهو مذهب الشافعي . وذكر بعض المصنفين : أنه لا خلاف فيه وليس كذلك ; لأن المالكية نصوا على أن له أن يتجاوز إلى الجحفة . قالوا : والأفضل إحرامه منها - أي من ذي الحليفة - ولعله أن يحمل الكلام على أنه لا خلاف فيه في مذهب الشافعي ، وإن كان قد أطلق الحكم ، ولم يضفه إلى مذهب أحد . وحكى أن لا خلاف ، وهذا أيضا محل نظر . فإن قوله " ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " عام فيمن أتى ، يدخل تحته : من ميقاته بين يدي هذه المواقيت التي مر بها ، ومن ليس ميقاته بين يديها .

وقوله " ولأهل الشام الجحفة " عام بالنسبة إلى من يمر بميقات آخر أولا ، فإذا قلنا بالعموم الأول : دخل تحته هذا الشامي الذي مر بذي الحليفة ، فيلزم أن يحرم منها . وإذا عملنا بالعموم الثاني - وهو أن لأهل الشام الجحفة - دخل تحته هذا المار أيضا بذي الحليفة ، فيكون له التجاوز إليها ، فلكل واحد منهما عموم من وجه . فكما يحتمل أن يقال " ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " مخصوص بمن ليس ميقاته بين يديه ، يحتمل أن يقال " ولأهل الشام الجحفة " مخصوص بمن لم يمر بشيء من هذه المواقيت .

الخامسة : قوله " ممن أراد الحج والعمرة " يقتضي تخصيص هذا الحكم بالمريد لأحدهما ، وأن من لم يرد ذلك إذا مر بأحد هذه المواقيت لا يلزمه الإحرام ، وله تجاوزها غير محرم .

السادسة : استدل بقوله " ممن أراد الحج والعمرة " على أنه لا يلزمه [ ص: 433 ] الإحرام بمجرد دخول مكة ، وهو أحد قولي الشافعي ، من حيث إن مفهومه : أن من لم يرد الحج أو العمرة لا يلزمه الإحرام ، فيدخل تحته من يريد دخول مكة لغير الحج أو العمرة . وهذا أولا يتعلق بأن المفهوم له عموم من حيث إن مفهومه : أن من لا يريد الحج أو العمرة : لا يلزمه الإحرام من حيث المواقيت ، وهو عام يدخل تحته من لا يريد الحج أو العمرة ولا دخول مكة ، ومن لا يريد الحج والعمرة ، ويريد دخول مكة . وفي عموم المفهوم نظر في الأصول ، وعلى تقدير أن يكون له عموم ، فإذا دل دليل على وجوب الإحرام لدخول مكة ، وكان ظاهر الدلالة لفظا : قدم على هذا المفهوم ; لأن المقصود بالكلام : حكم الإحرام بالنسبة إلى هذه الأماكن ، ولم يقصد به بيان حكم الداخل إلى مكة . والعموم إذا لم يقصد : فدلالته ليست بتلك القوية إذا ظهر من السياق المقصود من اللفظ . والذي يقتضيه اللفظ ، على تقدير تسليم العموم وتناوله لمن يريد مكة لغير الحج والعمرة : أنه لا يجب عليه الإحرام من المواقيت ، ولا يلزم من عدم هذا الوجوب عدم وجوب الإحرام لدخول مكة .

السابعة : استدل به على أن الحج ليس على الفور ; لأن من مر بهذه المواقيت لا يريد الحج والعمرة ، يدخل تحته من لم يحج ، فيقتضي اللفظ : أنه لا يلزمه الإحرام من حيث المفهوم . فلو وجب على الفور للزمه ، أراد الحج أو لم يرده . وفيه من الكلام ما في المسألة قبلها .

الثامنة : قوله " ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ " يقتضي : أن من منزله دون الميقات إذا أنشأ السفر للحج أو العمرة ، فميقاته منزله ، ولا يلزمه المسير إلى الميقات المنصوص عليه من هذه المواقيت .

التاسعة : يقتضي أن أهل مكة يحرمون منها ، وهو مخصوص بالإحرام بالحج ، فإن من أحرم بالعمرة ممن هو في مكة : يحرم من أدنى الحل : ويقتضي الحديث : أن الإحرام من مكة نفسها . وبعض الشافعية يرى أن الإحرام من الحرم له جائز . والحديث على خلافه ظاهرا . ويدخل في أهل مكة من بمكة ممن ليس من أهلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية