إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
220 - الحديث الثاني : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة - { لا هجرة ، ولكن جهاد ونية . وإذا استنفرتم فانفروا ، وقال : يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السموات والأرض . فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها . ولا يختلى خلاه . فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر . فإنه لقينهم وبيوتهم . فقال : إلا الإذخر } .


" القين " الحداد . [ ص: 447 ] قوله عليه السلام " لا هجرة " نفي لوجوب الهجرة من مكة إلى المدينة . فإن " الهجرة " تجب من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام . وقد صارت مكة دار إسلام بالفتح . وإن لم يكن من هذه الجهة . فيكون حكما ورد لرفع وجوب هجرة أخرى بغير هذا السبب . ولا شك أنه تجب الهجرة اليوم من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام لمن قدر على ذلك .

وفي ضمن الحديث : الإخبار بأن مكة تصير دار إسلام أبدا .

وقوله عليه السلام ، " وإذا استنفرتم فانفروا " أي إذا طلبتم للجهاد فأجيبوا ولا شك أنه تتعين الإجابة والمبادرة إلى الجهاد في بعض الصور ، فأما إذا عين الإمام بعض الناس لفرض الكفاية ، فهل يتعين عليه ؟ اختلفوا فيه . ولعله يؤخذ من لفظ الحديث الوجوب في حق من عين للجهاد . ويؤخذ غيره بالقياس .

وقوله عليه السلام " ولكن جهاد ونية " يحتمل أن يريد به جهادا مع نية خالصة إذ غير الخالصة غير معتبرة . فهي كالعدم في الاعتداد بها في صحة الأعمال . ويحتمل أن يراد : ولكن جهاد بالفعل ، أو نية الجهاد لمن يفعل ، كما قال عليه السلام { من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بالغزو . مات على شعبة من النفاق } .

وقوله صلى الله عليه وسلم { إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض } تكلموا فيه ، مع قوله عليه السلام { إن إبراهيم حرم مكة } فقيل بظاهر هذا ، وأن إبراهيم أظهر حرمتها بعد ما نسيت . والحرمة ثابتة من يوم خلق الله السموات والأرض . وقيل : إن التحريم في زمن إبراهيم ، وحرمتها يوم خلق الله السموات والأرض : كتابتها في اللوح المحفوظ ، أو غيره : حراما . وأما الظهور للناس : ففي زمن إبراهيم عليه السلام .

وقوله " فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وأنه لم يحل القتال " يدل على أمرين :

أحدهما : أن هذا التحريم يتناول القتال .

والثاني : أن هذا الحكم ثابت لا ينسخ . وقد تقدم ما في تحريم القتال أو إباحته .

وقوله " لا يعضد شوكه " دليل على أن قطع الشوك ممتنع كغيره . وذهب إليه بعض مصنفي الشافعية . والحديث معه . وأباحه غيره ، من حيث إن الشوك مؤذ . [ ص: 448 ] وقوله " ولا ينفر صيده " أي يزعج من مكانه . وفيه دليل على طريق فحوى الخطاب : أن قتله محرم فإنه إذا حرم تنفيره ، بأن يزعج من مكانه ، فقتله أولى .

وقوله " ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها " اللقطة - بإسكان القاف ، وقد يقال بفتحها - الشيء الملتقط . وذهب الشافعي إلى أن لقطة الحرم لا تؤخذ للتملك . وإنما تؤخذ لتعرف لا غير . وذهب مالك إلى أنها كغيرها في التعريف والتملك . ويستدل للشافعي بهذا الحديث .

و " الخلى " بفتح الخاء والقصر : الحشيش إذا كان رطبا ، واختلاؤه : قطعه وقد تقدم . و " الإذخر " نبت معروف طيب الرائحة . وقوله " فإنه لقينهم " القين : الحداد ; لأنه يحتاج إليه في عمل النار ، و " بيوتهم " تحتاج إليه في التسقيف .

وقوله عليه السلام " إلا الإذخر " على الفور تتعلق به من يروي اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم أو تفويض الحكم إليه من أهل الأصول . وقيل : يجوز أن يكون يوحى إليه في زمن يسير . فإن الوحي إلقاء في خفية . وقد تظهر أماراته وقد لا تظهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية