إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
240 - الحديث الأول : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال { أهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة ، وقدم علي رضي الله عنه من اليمن . فقال : أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه : أن يجعلوها عمرة ، فيطوفوا ثم يقصروا ويحلوا ، إلا من كان معه الهدي فقالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر ؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت . وحاضت عائشة . فنسكت المناسك كلها ، غير أنها لم تطف بالبيت . فلما طهرت وطافت بالبيت قالت : يا رسول الله ، ينطلقون بحج وعمرة ، وأنطلق بحج فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر : أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج } .


[ ص: 470 ] قوله " أهل النبي صلى الله عليه وسلم " الإهلال : أصله رفع الصوت . ثم استعمل في التلبية استعمالا شائعا . ويعبر به عن الإحرام .

وقوله " بالحج " ظاهره يدل على الإفراد . وهو رواية جابر .

وقوله " وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة " كالمقدمة لما أمروا به من فسخ الحج إلى العمرة ، إذا لم يكن هدي .

وقوله " أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم " قيل : فيه دليل على جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير وانعقاد إحرام المعلق بما أحرم به الغير . ومن الناس من عدى هذا إلى صور أخرى أجاز فيها التعليق ، ومنعه غيره ومن أبى ذلك يقول : الحج مخصوص بأحكام ليست في غيره . ويجعل محل النص منها .

وقوله " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة " فيه عموم وهو مخصوص بأصحابه الذين لم يكن معهم هدي ، وقد بين ذلك في حديث آخر . وفسخ الحج إلى العمرة : كان جائزا بهذا الحديث . وقيل : إن علته حسم مادة الجاهلية في اعتقادها أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور .

واختلف الناس فيما بعد هذه الواقعة : هل يجوز فسخ الحج إلى العمرة ، كما في هذه الواقعة أم لا ؟ فذهب الظاهرية إلى جوازه . وذهب أكثر الفقهاء المشهورين إلى منعه وقيل : إن هذا كان مخصوصا بالصحابة . وفي هذا حديث عن أبي ذر رضي الله عنه وعن الحارث بن بلال عن أبيه أيضا . أعني في كونه مخصوصا .

وقوله " فيطوفوا ثم يقصروا " يحتمل قوله " فيطوفوا " وجهين :

أحدهما : أن يراد به الطواف بالبيت على ما هو المشهور . ويكون في الكلام حذف ، أي يطوفوا ويسعوا . فإن العمرة لا بد فيها من السعي . ويحتمل أن يكون استعمل الطواف في الطوف بالبيت ، وفي السعي أيضا فإنه قد يسمى طوافا ، قال الله تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر الله ، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح [ ص: 471 ] عليه أن يطوف بهما } .

وقوله " فقالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر " فيه دليل على استعمال المبالغة في الكلام . فإنهم إذا حلوا من العمرة وواقعوا النساء ، كان إحرامهم للحج قريبا من زمن المواقعة ، والإنزال . فحصلت المبالغة في قرب الزمان بأن قيل " وذكر أحدنا يقطر " وكأنه إشارة إلى اعتبار المعنى في الحج . وهو الشعث وعدم الترفه . فإذا طال الزمن في الإحرام حصل هذا المقصود . وإذا قرب زمن الإحرام من زمن التحلل : ضعف هذا المقصود ، أو عدم وكأنهم استنكروا زوال هذا المقصود أو ضعفه ، لقرب إحرامهم من تحللهم

وقوله صلى الله عليه وسلم { لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت } فيه أمران :

أحدهما : جواز استعمال لفظة " لو " في بعض المواضع ، وإن كان قد ورد فيها ما يقتضي خلاف ذلك . وهو { قوله صلى الله عليه وسلم فإن لو تفتح عمل الشيطان } وقد قيل في الجمع بينهما : إن كراهتها في استعمالها في التلهف على أمور الدنيا ، إما طلبا كما يقال : لو فعلت كذا حصل لي كذا . وإما هربا كقوله : لو كان كذا لما وقع لي كذا وكذا . لما في ذلك من صورة عدم التوكل في نسبة الأفعال إلى القضاء والقدر وأما إذا استعملت في تمني القربات - كما جاء في هذا الحديث - فلا كراهة هذا أو ما يقرب منه .

الثاني : استدل به على أن التمتع أفضل . ووجه الدليل : أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى ما يكون به متمتعا لو وقع . وإنما يتمنى الأفضل مما حصل . ويجاب عنه بأن الشيء قد يكون أفضل بالنظر إلى ذاته ، بالنسبة إلى شيء آخر ، وبالنظر إلى ذات ذلك الشيء الآخر . ثم يقترن بالمفضول في صورة خاصة ما يقتضي ترجيحه ولا يدل ذلك على أفضليته من حيث هو هو . وههنا كذلك . فإن هذا التلهف اقترن به قصد موافقة الصحابة في فسخ الحج إلى العمرة ، لما شق عليهم ذلك . وهذا أمر زائد على مجرد التمتع . وقد يكون التمتع مع هذه الزيادة أفضل . ولا يلزم من ذلك : أن يكون التمتع بمجرده أفضل .

وقوله صلى الله عليه وسلم " ولولا أن معي الهدي لأحللت " معلل بقوله تعالى { ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وفسخ الحج إلى العمرة : يقتضي التحلل [ ص: 472 ] بالحلق عند الفراغ من العمرة . ولو تحلل بالحلق عند الفراغ من العمرة : لحصل الحلق قبل بلوغ الهدي محله . وقد يؤخذ من هذا - والله أعلم - التمسك بالقياس . فإنه يقتضي تسوية التقصير بالحلق في منعه قبل بلوغ الهدي محله ، مع أن النص لم يرد إلا في الحلق . فلو وجب الاقتصار على النص ، لم يمتنع فسخ الحج إلى العمرة لأجل هذه العلة . فإنه حينئذ كان يمكن التحلل من العمرة بالتقصير . ويبقى النص معمولا به في منع الحلق ، حتى يبلغ الهدي محله فحيث حكم بامتناع التحلل من العمرة ، وعلل بهذه العلة : دل ذلك على أنه أجرى التقصير مجرى الحلق في امتناعه قبل بلوغ الهدي محله ، مع أن النص لم يدل عليه بلفظه ، وإنما ألحق به بالمعنى .

وقوله " وحاضت عائشة - إلى آخره " يدل على امتناع الطواف على الحائض إما لنفسه ، وإما لملازمته لدخول المسجد . ويدل على فعلها لجميع أفعال الحج إلا ذلك . وعلى أنه لا تشترط الطهارة في بقية الأعمال .

وقوله غير أنها لم تطف بالبيت " فيه حذف ، تقديره : ولم تسع . ويبين ذلك رواية أخرى صحيحة ، ذكر فيها " أنها بعد أن طهرت طافت وسعت " .

ويؤخذ من هذا : أن السعي لا يصح إلا بعد طواف صحيح . فإنه لو صح لما لزم من تأخير الطواف بالبيت تأخير السعي ، إذ هي قد فعلت المناسك كلها غير الطواف بالبيت ، فلولا اشتراط تقدم الطواف على السعي لفعلت في السعي ما فعلت في غيره . وهذا الحكم متفق عليه بين أصحاب الشافعي ومالك . وزاد المالكية قولا آخر : أن السعي لا بد أن يكون بعد طواف واجب وإنما صح بعد طواف القدوم - على هذا القول - لاعتقاد هذا القائل وجوب طواف القدوم .

وقولها " ينطلقون بحج وعمرة " تريد العمرة التي فسخوا الحج إليها ، والحج الذي أنشئوه من مكة . وقولها " وأنطلق بحج ؟ " يشعر بأنها لم تحصل لها العمرة ، وأنها لم تحل بفسخ الحج الأول إلى العمرة . وهذا ظاهر ، إلا أنهم لما نظروا إلى روايات أخرى اقتضت : أن عائشة اعتمرت ; لأنه عليه السلام أمرها بترك عمرتها ، ونقض رأسها ، وامتشاطها ، والإهلال بالحج لما حاضت لامتناع التحلل من العمرة بوجود الحيض ، ومزاحمته وقت الحج وحملوا أمره عليه السلام [ ص: 473 ] بترك العمرة على ترك المضي في أعمالها . لا على رفضها بالخروج منها . وأهلت بالحج ، مع بقاء العمرة . فكانت قارنة - اقتضى ذلك : أن تكون قد حصل لها عمرة . فأشكل حينئذ قولها " ينطلقون بحج وعمرة ، وأنطلق بحج " إذ هي أيضا قد حصل لها حج وعمرة ، لما تقرر من كونها صارت قارنة . فاحتاجوا إلى تأويل هذا اللفظ . فأولوا قولها " ينطلقون بحج وعمرة ، وأنطلق بحج " على أن المراد : ينطلقون بحج مفرد عن عمرة ، وعمرة منفردة عن حج . وأنطلق بحج غير مفرد عن عمرة . فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة ، ليحصل لها قصدها في عمرة مفردة عن حج ، وحج مفرد عن عمرة . هذا حاصل ما قيل في هذا . مع أن الظاهر خلافه ، بالنسبة إلى هذا الحديث ، لكن الجمع بين الروايات ألجأهم إلى مثل هذا .

وقوله " فأمر عبد الرحمن - إلى آخره " يدل على جواز الخلوة بالمحارم ولا خلاف فيه . وقوله " أن يخرج معها إلى التنعيم " يدل على أن من أراد أن يحرم بالعمرة من مكة لا يحرم بها من جوفها . بل عليه الخروج إلى الحل . فإن " التنعيم " أدنى الحل . وهذا معلل بقصد الجمع بين الحل والحرم في العمرة ، كما وقع ذلك في الحج . فإنه جمع فيه بين الحل والحرم . فإن " عرفة " من أركان الحج . وهي من الحل . واختلفوا في أنه لو أحرم بالعمرة من مكة ، ولم يخرج إلى الحل : هل يكون الطواف والسعي صحيحا ويلزمه دم ، أو يكون باطلا ؟ وفي مذهب الشافعي خلاف . ومذهب مالك : أنه لا يصح . وجمد بعض الناس فشرط الخروج إلى التنعيم بعينه . ولم يكتف بالخروج إلى مطلق الحل . ومن علل بما ذكرناه ، وفهم المعنى - وهو الجمع بين الحل والحرم - اكتفى بالخروج إلى مطلق الحل .

التالي السابق


الخدمات العلمية