إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
244 - الحديث الخامس : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع . فجعلوا يسألونه . فقال : رجل لم أشعر ، فحلقت قبل أن أذبح ؟ قال . اذبح ولا حرج . وجاء آخر ، فقال : لم أشعر ، فنحرت قبل أن أرمي ؟ قال : ارم ولا حرج . فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : افعل ولا حرج } .


" الشعور " العلم . وأصله : من المشاعر . وهي الحواس . فكأنه يستند إلى الحواس ، و " النحر " ما يكون في اللبة ، و " الذبح " ما يكون في الحلق . والوظائف يوم النحر أربعة : الرمي . ثم نحر الهدي أو ذبحه . ثم الحلق أو التقصير . ثم طواف الإفاضة . هذا هو الترتيب المشروع فيها . ولم يختلفوا في طلبية هذا الترتيب ، وجوازه على هذا الوجه ، إلا أن ابن الجهم - من المالكية - يرى أن القارن لا يجوز له الحلق قبل الطواف وكأنه رأى أن القارن عمرته وحجته قد تداخلا . فالعمرة قائمة في حقه . والعمرة لا يجوز فيها الحلق قبل الطواف . وقد يشهد لهذا : قوله عليه السلام في القارن " حتى يحل منهما جميعا " فإنه يقتضي [ ص: 476 ] أن الإحلال منهما يكون في وقت واحد . فإذا حلق قبل الطواف : فالعمرة قائمة بهذا الحديث . فيقع الحلق فيهما قبل الطواف ، وفي هذا الاستشهاد نظر . ورد عليه بعض المتأخرين بنصوص الأحاديث والإجماع المتقدم عليه . وكأنه يريد بنصوص الأحاديث : ما ثبت عنده " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا في آخر الأمر " وأنه حلق قبل الطواف . وهذا إنما ثبت بأمر استدلالي ، لا نصي عند الجمهور ، أو كثير ، أعني : كونه عليه السلام قارنا . وابن الجهم بنى على مذهب مالك والشافعي ، ومن قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا وأما الإجماع : فبعيد الثبوت ، إن أراد به الإجماع النقلي القولي . وإن أراد السكوتي : ففيه نظر . وقد ينازع فيه أيضا .

وإذا ثبت أن الوظائف أربع في هذا اليوم ، فقد اختلفوا فيما لو تقدم بعضها على بعض . فاختار الشافعي جواز التقديم : وجعل الترتيب مستحبا ، ومالك وأبو حنيفة يمنعان تقديم الحلق على الرمي ; لأنه حينئذ يكون حلقا قبل وجود التحللين . وللشافعي قول مثله . وقد بني القولان له على أن الحلق نسك ، أو استباحة محظور . فإن قلنا : إنه نسك ، جاز تقديمه على الرمي ; لأنه يكون من أسباب التحلل . وإن قلنا : إنه استباحة محظور : لم يجز ، لما ذكرناه من وقوع الحلق قبل التحللين . وفي هذا البناء نظر ; لأنه لا يلزم من كون الشيء نسكا أن يكون من أسباب التحلل . ومالك يرى أن الحلق نسك . ويرى - مع ذلك - أنه لا يقدم على الرمي . إذ معنى كون الشيء نسكا : أنه مطلوب ، مثاب عليه . ولا يلزم من ذلك : أن يكون سببا للتحلل ونقل عن أحمد : أنه إن قدم بعض هذه الأشياء على بعض ، فلا شيء عليه ، إن كان جاهلا . وإن كان عالما : ففي وجوب الدم روايتان . وهذا القول في سقوط الدم عن الجاهل والناسي ، دون العامد : قوي ، من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج ، بقوله خذوا عني مناسككم " وهذه الأحاديث المرخصة في التقديم لما وقع السؤال عنه : إنما قرنت بقول السائل " لم أشعر " فيخصص الحكم بهذه الحالة . وتبقى حالة العمد على أصل [ ص: 477 ] وجوب اتباع الرسول في أعمال الحج . ومن قال بوجوب الدم في العمد والنسيان ، عند تقدم الحلق على الرمي : فإنه يحمل قوله عليه السلام " لا حرج " على نفي الإثم في التقديم مع النسيان ولا يلزم من نفي الإثم نفي وجوب الدم .

وادعى بعض الشارحين : أن قوله عليه السلام " لا حرج " ظاهر في أنه لا شيء عليه . وعنى بذلك نفي الإثم والدم معا . وفيما ادعاه من الظهور نظر . وقد ينازعه خصومه فيه ، بالنسبة إلى الاستعمال العرفي . فإنه قد استعمل " لا حرج " كثيرا في نفي الإثم ، وإن كان من حيث الوضع اللغوي يقتضي نفي الضيق . قال الله تعالى { ما جعل عليكم في الدين من حرج } .

وهذا البحث كله إنما يحتاج إليه بالنسبة إلى الرواية التي جاء فيها السؤال عن تقديم الحلق على الرمي . وأما على الرواية التي ذكرها المصنف : فلا تعم من أوجب الدم ، وحمل نفي الحرج على نفي الإثم ، فيشكل عليه تأخير بيان وجوب الدم . فإن الحاجة تدعو إلى تبيان هذا الحكم . فلا يؤخر عنها بيانه . ويمكن أن يقال : إن ترك ذكره في الرواية لا يلزم منه ترك ذكره في نفس الأمر . وأما من أسقط الدم ، وجعل ذلك مخصوصا بحالة عدم الشعور : فإنه يحمل " لا حرج " على نفي الإثم والدم معا . فلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة . ويبنى أيضا على القاعدة : في أن الحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز اطراحه وإلحاق غيره مما لا يساويه به . ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم التكليف والمؤاخذة . والحكم علق به . فلا يمكن اطراحه بإلحاق العمد به . إذ لا يساويه . فإن تمسك بقول الراوي " فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : افعل ، ولا حرج " فإنه قد يشعر بأن الترتيب مطلقا غير مراعى في الوجوب . فجوابه : أن الراوي لم يحك لفظا عاما عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي جواز التقديم والتأخير مطلقا . وإنما أخبر عن قوله عليه الصلاة والسلام " لا حرج " بالنسبة إلى كل ما سئل عنه من التقديم والتأخير حينئذ . وهذا الإخبار من الراوي : إنما تعلق بما وقع السؤال عنه . وذلك مطلق بالنسبة إلى حال السؤال ، وكونه وقع عن العمد أو عدمه ، والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه . فلا يبقى حجة في [ ص: 478 ] حال العمد . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية