إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
2 - الحديث الثاني : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ } .


" أبو هريرة " في اسمه اختلاف شديد . وأشهره : عبد الرحمن بن صخر . أسلم عام خيبر سنة سبع من الهجرة ، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أحفظ الصحابة ، سكن المدينة . وتوفي - قال خليفة : سنة سبع وخمسين . وقال الهيثم : سنة ثمان ، وقال الواقدي : سنة تسع .

الكلام عليه من وجوه :

أحدها : " القبول " وتفسير معناه .

قد استدل جماعة من المتقدمين بانتفاء القبول على انتفاء الصحة ، كما قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم { لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار } أي من بلغت سن المحيض .

والمقصود بهذا الحديث : الاستدلال على اشتراط الطهارة من الحدث في صحة الصلاة .

ولا يتم ذلك إلا بأن يكون انتفاء القبول دليلا على انتفاء الصحة .

وقد حرر المتأخرون في هذا بحثا .

; لأن انتفاء القبول قد ورد في مواضع مع ثبوت الصحة ، كالعبد إذا أبق لا تقبل له صلاة ، وكما ورد فيمن أتى عرافا .

وفي شارب الخمر .

فإذا أريد تقرير الدليل على انتفاء الصحة من انتفاء القبول .

فلا بد من تفسير معنى القبول ، وقد فسر بأنه ترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء .

يقال : قبل فلان عذر فلان : إذا رتب على عذره الغرض المطلوب منه .

وهو محو الجناية والذنب . [ ص: 66 ]

فإذا ثبت ذلك فيقال ، مثلا في هذا المكان : الغرض من الصلاة : وقوعها مجزئة بمطابقتها للأمر .

فإذا حصل هذا الغرض : ثبت القبول ، على ما ذكر من التفسير .

وإذا ثبت القبول على هذا التفسير : ثبتت الصحة .

وإذا انتفى القبول على هذا التفسير : انتفت الصحة .

وربما قيل من جهة بعض المتأخرين : إن " القبول " كون العبادة بحيث يترتب الثواب والدرجات عليها .

و " الإجزاء " كونها مطابقة للأمر والمعنيان إذا تغايرا ، وكان أحدهما أخص من الآخر : لم يلزم من نفي الأخص نفي الأعم .

و " القبول " على هذا التفسير : أخص من الصحة ، فإن كل مقبول صحيح ، وليس كل صحيح مقبولا .

وهذا - إن نفع في تلك الأحاديث التي نفي عنها القبول مع بقاء الصحة فإنه يضر في الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة ، كما حكينا عن الأقدمين .

اللهم إلا أن يقال : دل الدليل على كون القبول من لوازم الصحة .

فإذا انتفى انتفت ، فيصح الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة حينئذ .

ويحتاج في تلك الأحاديث التي نفي عنها القبول مع بقاء الصحة إلى تأويل ، أو تخريج جواب .

على أنه يرد على من فسر " القبول " بكون العبادة مثابا عليها ، أو مرضية ، أو ما أشبه ذلك - إذا كان مقصوده بذلك : أن لا يلزم من نفي القبول نفي الصحة : أن يقال : القواعد الشرعية تقتضي : أن العبادة إذا أتي بها مطابقة للأمر كانت سببا للثواب والدرجات والإجزاء .

والظواهر في ذلك لا تنحصر .

الوجه الثاني : في تفسير معنى : " الحدث " فقد يطلق بإزاء معان ثلاثة :

أحدها : الخارج المخصوص الذي يذكره الفقهاء في باب نواقض الوضوء . ويقولون : الأحداث كذا وكذا .

الثاني : نفس خروج ذلك الخارج .

الثالث : المنع المرتب على ذلك الخروج .

وبهذا المعنى يصح قولنا " رفعت الحدث " و " نويت رفع الحدث " فإن كل واحد من الخارج والخروج قد وقع .

وما وقع يستحيل رفعه ، بمعنى أن لا يكون واقعا .

وأما المنع المرتب على الخروج : فإن الشارع حكم به .

ومد غايته إلى استعمال المكلف الطهور ، فباستعماله يرتفع المنع .

فيصح قولنا " رفعت الحدث " و " ارتفع الحدث " أي [ ص: 67 ] ارتفع المنع الذي كان ممدودا إلى استعمال المطهر .

وبهذا التحقيق يقوى قول من يرى أن التيمم يرفع الحدث .

; لأنا لما بينا أن المرتفع : هو المنع من الأمور المخصوصة ، وذلك المنع مرتفع بالتيمم .

فالتيمم يرفع الحدث .

غاية ما في الباب : أن رفعه للحدث مخصوص بوقت ما ، أو بحالة ما .

وهي عدم الماء . وليس ذلك ببدع ، فإن الأحكام قد تختلف باختلاف محالها . وقد كان الوضوء في صدر الإسلام واجبا لكل صلاة ، على ما حكوه ولا نشك أنه كان رافعا للحدث في وقت مخصوص .

وهو وقت الصلاة .

ولم يلزم من انتهائه بانتهاء وقت الصلاة في ذلك الزمن : أن لا يكون رافعا للحدث .

ثم نسخ ذلك الحكم عند الأكثرين .

ونقل عن بعضهم ; أنه مستمر .

ولا شك أنه لا يقول : إن الوضوء لا يرفع الحدث .

نعم ههنا معنى رابع ، يدعيه كثير من الفقهاء ، وهو أن الحدث وصف حكمي مقدر قيامه بالأعضاء على مقتضى الأوصاف الحسية .

وينزلون ذلك الحكمي منزلة الحسي في قيامه بالأعضاء .

فما نقول : إنه يرفع الحدث - كالوضوء والغسل - يزيل ذلك الأمر الحكمي .

فيزول المنع المرتب على ذلك الأمر المقدر الحكمي .

وما نقول بأنه لا يرفع الحدث ، فذلك المعنى المقدر القائم بالأعضاء حكما باق لم يزل .

والمنع المرتب عليه زائل .

فبهذا الاعتبار نقول : إن التيمم لا يرفع الحدث ، بمعنى أنه لم يزل ذلك الوصف الحكمي المقدر وإن كان المنع زائلا .

وحاصل هذا : أنهم أبدوا للحدث معنى رابعا ، غير ما ذكرناه من الثلاثة المعاني .

وجعلوه مقدرا قائما بالأعضاء حكما ، كالأوصاف الحسية ، وهم مطالبون بدليل شرعي يدل على إثبات هذا المعنى الرابع ، الذي ادعوه مقدرا قائما بالأعضاء ، فإنه منفي بالحقيقة ، والأصل موافقة الشرع لها ، ويبعد أن يأتوا بدليل على ذلك .

وأقرب ما يذكر فيه : أن الماء المستعمل قد انتقل إليه المانع ، كما يقال ، والمسألة متنازع فيها .

فقد قال جماعة بطهورية الماء المستعمل .

ولو قيل بعدم طهوريته أو بنجاسته : لم يلزم منه انتقال مانع إليه .

فلا يتم الدليل .

والله أعلم .

الوجه الثالث : استعمل الفقهاء " الحدث " عاما فيما يوجب الطهارة ، فإذا حمل الحديث عليه - أعني قوله { إذا أحدث } - جمع أنواع النواقض على [ ص: 68 ] مقتضى هذا الاستعمال ، لكن أبو هريرة قد فسر الحدث في بعض الأحاديث - لما سئل عنه - بأخص من هذا الاصطلاح ، وهو الريح ، إما بصوت أو بغير صوت ، فقيل له : " يا أبا هريرة ، ما الحدث ؟ فقال : فساء أو ضراط " ولعله قامت له قرائن حالية اقتضت هذا التخصيص .

الوجه الرابع : استدل بهذا الحديث على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة .

ووجه الاستدلال به : أنه صلى الله عليه وسلم نفى القبول ممتدا إلى غاية الوضوء .

وما بعد الغاية مخالف لما قبلها .

فيقتضي ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقا .

وتدخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية