إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
250 - الحديث الحادي عشر : وعنه - أي عن ابن عمر - قال { جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع ، لكل واحدة منهما إقامة . ولم يسبح بينهما ، ولا على إثر واحدة منهما } .


فيه دليل على جمع التأخير بمزدلفة . وهي " جمع " لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان وقت الغروب بعرفة فلم يجمع بينهما بالمزدلفة إلا وقد أخر المغرب . وهذا الجمع لا خلاف فيه . وإنما اختلفوا : هل هو بعذر النسك ، أو بعذر السفر ؟ وفائدة الخلاف : أن من ليس بمسافر سفرا يجمع فيه ، هل يجمع بين هاتين الصلاتين أم [ ص: 482 ] لا ؟ والمنقول عن مذهب أبي حنيفة : أن الجمع بعذر النسك . وظاهر مذهب الشافعي : أنه بعذر السفر . ولبعض أصحابه وجه : أنه بعذر السفر . ولبعض أصحابه وجه : أنه بعذر النسك ، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الصلاتين في طول سفره ذلك ، فإن كان لم يجمع في نفس الأمر ، فيقوى أن يكون للنسك ; لأن الحكم المتجدد عن تجدد أمر يقتضي إضافة ذلك الحكم إلا ذلك الأمر ، وإن كان قد جمع : إما بأن يرد في ذلك نقل خاص ، أو يؤخذ من قول ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء } فقد تعارض في هذا الجمع سببان : السفر ، والنسك . فيبقى النظر في ترجيح الإضافة إلى أحدهما ، على أن في الاستدلال بحديث ابن عمر على هذا الجمع نظرا . من حيث إن السير لم يكن مجدا في ابتداء هذه الحركة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا عند دخول وقت صلاة المغرب ، وأنشأ الحركة بعد ذلك ، فالجد إنما يكون بعد الحركة . أما في الابتداء : فلا ، وقد كان يمكن أن تقام المغرب بعرفة . ولا يحصل جد السير بالنسبة إليها . وإنما يتناول الحديث : ما إذا كان الجد والسير موجودا عند دخول وقتها فهذا أمر محتمل .

واختلف الفقهاء أيضا : فيما لو أراد الجمع بغير جمع ، كما لو جمع في الطريق أو بعرفة على التقديم ، هل يجمع أم لا ؟ والذين عللوا الجمع بالسفر : يجيزون الجمع مطلقا . والذين يعللونه بالنسك : نقل عن بعضهم : أنه لا يجمع إلا بالمكان الذي جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو المزدلفة ، إقامة لوظيفة النسك على الوجه الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم .

ومما يتعلق بالحديث : الكلام في الأذان والإقامة لصلاتي الجمع . وقد ذكر فيه : أنه جمع بإقامة لكل واحدة . ولم يذكر الأذان .

وحاصل مذهب الشافعي رحمه الله : أن الجمع إما أن يكون على وجه [ ص: 483 ] التقديم ، أو على وجه التأخير . فإن كان على وجه التقديم : أذن للأولى ; لأن الوقت لها وأقام لكل واحدة ، ولم يؤذن للثانية ، إلا على وجه غريب لبعض أصحابه . وإن كان على وجه التأخير - كما في هذا الجمع - صلاهما بإقامتين ، كما في ظاهر هذا الحديث . وأجروا في الأذان للأولى الخلاف الذي في الأذان للفائتة . ودلالة الحديث على عدم الأذان دلالة سكوت ، أعني الحديث الذي ذكره المصنف .

ويتعلق بالحديث أيضا : عدم التنفل بين صلاتي الجمع لقوله " ولم يسبح بينهما " و " السبحة صلاة النافلة على المشهور والمسألة معبر عنها : بوجوب الموالاة بين صلاتي الجمع . والمنقول عن ابن حبيب من أصحاب مالك : أن له أن ينتفل . أعني للجامع بين الصلاتين . ومذهب الشافعي : أن الموالاة بين الصلاتين شرط في جمع التقديم وفيها في جمع التأخير خلاف ; لأن الوقت للصلاة الثانية . فجاز تأخيرها . وإذا قلنا بوجوب الموالاة فلا يقطعها قدر الإقامة ، ولا قدر التيمم لمن يتيمم ، ولا قدر الأذان لمن يقول بالأذان لكل واحدة من صلاتي الجمع وقد حكيناه وجها لبعض الشافعية .

وهو قول في مذهب مالك أيضا فمن أراد أن يستدل بالحديث على عدم جواز التنفل بين صلاتي الجمع ؟ فلمخالفه أن يقول : هو فعل ، والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب ، ويحتاج إلى ضميمة أمر آخر إليه . ومما يؤكده - أعني كلام المخالف - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتنفل بعدهما ، كما في الحديث ، مع أنه لا خلاف في جواز ذلك . فيشعر ذلك بأن ترك التنفل لم يكن لما ذكر من وجوب الموالاة . وقد ورد بعض الروايات " أنه فصل بين هاتين الصلاتين بحط الرحال " وهو يحتاج إلى مسافة في الوقت ، ويدل على جواز التأخير . وقد تكرر من المصنف إيراد أحاديث في هذا الباب لا تناسب ترجمته .

التالي السابق


الخدمات العلمية