إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
251 - الحديث الأول : عن أبي قتادة الأنصاري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجا . فخرجوا معه . فصرف طائفة منهم - فيهم أبو قتادة - وقال : خذوا ساحل البحر ، حتى نلتقي . فأخذوا ساحل البحر [ ص: 484 ] فلما انصرفوا أحرموا كلهم ، إلا أبا قتادة ، فلم يحرم . فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش . فحمل أبو قتادة على الحمر . فعقر منها أتانا . فنزلنا فأكلنا من لحمها . ثم قلنا : أنأكل لحم صيد ، ونحن محرمون ؟ فحملنا ما بقي من لحمها فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسألناه عن ذلك ؟ فقال : منكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها ؟ قالوا : لا . قال : فكلوا ما بقي من لحمها } وفي رواية " قال : هل معكم منه شيء ؟ فقلت : نعم . فناولته العضد ، فأكل منها " .


تكلموا في كون أبي قتادة لم يكن محرما ، مع كونهم خرجوا للحج ، ومروا بالميقات . ومن كان كذلك وجب عليه الإحرام من الميقات .

وأجيب بوجوه : منها : ما دل عليه أول هذا الحديث ، من أنه أرسل إلى جهة أخرى لكشفها . وكان الالتقاء بعد مضي مكان الميقات . ومنها : أنه قبل توقيت المواقيت . و " الأتان " الأنثى من الحمر . وقولهم " نأكل من لحم صيد ونحن محرمون " ورجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك : دليل على أمرين : أحدهما : جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنهم أكلوه باجتهاد والثاني : وجوب الرجوع إلى النصوص عند تعارض الأشباه والاحتمالات .

{ وقوله صلى الله عليه وسلم منكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها } فيه دليل على أنهم لو فعلوا ذلك لكان سببا للمنع .

وقوله عليه السلام " فكلوا ما بقي من لحمها " دليل على جواز أكل المحرم لحم الصيد ، إذا لم يكن منه دلالة ولا إشارة . وقد اختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد على مذاهب :

أحدها : أنه ممنوع مطلقا ، صيد لأجله أو لا . وهذا مذكور عن بعض السلف ودليله : حديث الصعب ، على ما سنذكره .

والثاني : أنه ممنوع إن صاده أو صيد لأجله ، سواء كان بإذنه أو بغير إذنه ، وهو مذهب مالك [ ص: 485 ] والشافعي .

والثالث : أنه إن كان باصطياده ، أو بإذنه ، أو بدلالته حرم ، وإن كان على غير ذلك : لم يحرم .

وحديث أبي قتادة - هذا - يدل على جواز أكله في الجملة . وهو على خلاف مذهب الأول . ويدل ظاهره : على أنه إذا لم يشر المحرم إليه ، ولا دل عليه : يجوز أكله . فإنه ذكر الموانع المانعة من أكله . والظاهر : أنه لو كان غيرها مانعا لذكر . وإنما احتج الشافعي على تحريم ما صيد لأجله مطلقا ، وإن لم يكن بدلالته وإذنه : بأمور أخرى . منها : حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم { لحم الصيد لكم حلال ، ما لم تصيدوه ، أو يصد لكم } .

والذي في الرواية الأخرى : من قوله عليه السلام " هل معكم منه شيء ؟ " فيه أمران :

أحدهما : تبسط الإنسان إلى صاحبه في طلب مثل هذا .

والثاني : زيادة تطييب قلوبهم في موافقتهم في الأكل . وقد تقدم لنا قوله عليه السلام { لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لما سقت الهدي } والإشارة إلى أن ذلك لطلب موافقتهم في الحلق فإنه كان أطيب لقلوبهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية