إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
256 - الحديث الثاني : عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تلقوا الركبان ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض . ولا [ ص: 496 ] تناجشوا . ولا يبع حاضر لباد . ولا تصروا الغنم . ومن ابتاعها فهو بخير النظرين ، بعد أن يحلبها . وإن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر . وفي لفظ هو بالخيار ثلاثا } .


" تلقي الركبان " من البيوع المنهي عنها . لما يتعلق به من الضرر . وهو أن يتلقى طائفة يحملون متاعا ، فيشتريه منهم قبل أن يقدموا البلد ، فيعرفوا الأسعار . والكلام فيه : في ثلاثة مواضع :

أحدها : التحريم ، فإن كان عالما بالنهي قاصدا للتلقي : فهو حرام وإن خرج لشغل آخر ، فرآهم مقبلين ، فاشترى : ففي إثمه وجهان للشافعية . أظهرهما : التأثيم .

الموضع الثاني : صحة البيع أو فساده . وهو عند الشافعي : صحيح . وإن كان آثما . وعند غيره من العلماء : يبطل . ومستنده : أن النهي للفساد . ومستند الشافعي : أن النهي لا يرجع إلى نفس العقد . ولا يخل هذا الفعل بشيء من أركانه وشرائطه . وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان . وذلك لا يقدح في نفس البيع .

الموضع الثالث : إثبات الخيار . فحيث لا غرور للركبان ، بحيث يكونون عالمين بالسعر فلا خيار . وإن لم يكونوا كذلك ، فإن اشترى منهم بأرخص من السعر فلهم الخيار . وما في لفظ بعض المصنفين من " أنه يخبرهم بالسعر كاذبا " ليس بشرط في إثبات الخيار . وإن اشترى منهم بمثل سعر البلد أو أكثر ، ففي ثبوت الخيار لهم وجهان للشافعية . منهم من نظر إلى انتفاء المعنى . وهو الغرر والضرر . فلم يثبت الخيار . ومنهم من نظر إلى لفظ حديث ورد بإثبات الخيار لهم فجرى على ظاهره . ولم يلتفت إلى المعنى . وإذا أثبتنا الخيار : فهل [ ص: 497 ] يكون على الفور ، أو يمتد إلى ثلاثة أيام ؟ فيه خلاف لأصحاب الشافعي . والأظهر : الأول .

وأما قوله { ولا يبع بعضكم على بيع بعض } فقد فسر في مذهب الشافعي بأن يشتري شيئا فيدعوه غيره إلى الفسخ ليبيعه خيرا منه بأرخص . وفي معناه : الشراء على الشراء . وهو أن يدعوا البائع إلى الفسخ ليشتريه منه بأكثر وهاتان الصورتان إنما تتصوران فيما إذا كان البيع في حالة الجواز ، وقبل اللزوم . وتصرف بعض الفقهاء في هذا النهي . وخصصه بما إذا لم يكن في الصورة غبن فاحش فإن كان المشتري مغبونا فيدعو إلى الفسخ . ويشتريه منه بأكثر . ومن الفقهاء من فسر البيع على البائع بالسوم على السوم . وهو أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول له إنسان رده ، لأبيع منك خيرا منه وأرخص ، أو يقول لصاحبه : استرده لأشتريه منك بأكثر . وللتحريم في ذلك عند أصحاب الشافعي شرطان :

أحدهما : استقرار الثمن . فأما ما يباع فيمن يزيد : فللطالب أن يزيد على الطالب . ويدخل عليه .

والثاني : أن يحصل التراضي بين المتساومين صريحا . فإن وجد ما يدل على الرضا ، من غير تصريح : فوجهان . وليس السكوت بمجرده من دلائل الرضا عند الأكثرين منهم .

وأما قوله " ولا تناجشوا " فهو من المنهيات لأجل الضرر . وهو أن يزيد في سلعة تباع ليغر غيره . وهو راغب فيها . واختلف في اشتقاق اللفظة . فقيل : إنها مأخوذة من معنى الإثارة . كأن الناجش يثير همة من يسمعه للزيادة . وكأنه مأخوذ من إثارة الوحش من مكان إلى مكان . وقيل : أصل اللفظة : مدح الشيء وإطراؤه . ولا شك أن هذا الفعل حرام ، لما فيه من الخديعة . وقال بعض الفقهاء : بأن البيع باطل . ومذهب الشافعي : أن البيع صحيح . وأما إثبات الخيار للمشتري . الذي غر [ ص: 498 ] بالنجش : فإن لم يكن النجش عن مواطأة من البائع . فلا خيار عند أصحاب الشافعي .

وأما بيع الحاضر للبادي " فمن البيوع المنهي عنها لأجل الضرر أيضا . وصورته : أن يحمل البدوي أو القروي متاعه إلى البلد ليبيعه بسعر يومه ويرجع فيأتيه البلدي فيقول : ضعه عندي لأبيعه على التدريج بزيادة سعر . وذلك إضرار بأهل البلد ، وحرام إن علم بالنهي . وتصرف بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي في ذلك . فقالوا : شرطه أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد . فإن لم يظهر - لكثرته في البلد ، أو لقلة الطعام المجلوب : ففي التحريم وجهان . ينظر في أحدهما : إلى ظاهر اللفظ . وفي الآخر : إلى المعنى وعدم الإضرار ، وتفويت الربح ، أو الرزق على الناس . وهذا المعنى منتف . وقالوا أيضا : يشترط أن يكون المتاع مما تعم الحاجة إليه ، دون ما لا يحتاج إليه إلا نادرا . وأن يدعو البلدي البدوي إلى ذلك . فإن التمسه البدوي منه فلا بأس ولو استشاره البدوي ، فهل يرشده إلى الادخار والبيع على التدريج ؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي . واعلم أن أكثر هذه الأحكام : قد تدور بين اعتبار المعنى واتباع اللفظ . ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء . فحيث يظهر ظهورا كثيرا فلا بأس باتباعه ، وتخصيص النص به ، أو تعميمه على قواعد القياسين . وحيث يخفى ، ولا يظهر ظهورا قويا . فاتباع اللفظ أولى . فأما ما ذكر من اشتراط أن يلتمس البلدي ذلك : فلا يقوى لعدم دلالة اللفظ عليه ، وعدم ظهور المعنى فيه . فإن الضرر المذكور الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البدوي وعدمه ظاهرا . وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه : فمتوسط في الظهور وعدمه . لاحتمال أن يراعى مجرد ربح الناس في هذا الحكم على ما أشعر به التعليل ، من قوله صلى الله عليه وسلم { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض } وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد ، فكذلك أيضا ، أي أنه متوسط في الظهور ، لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح والرزق [ ص: 499 ] على أهل البلد . وهذه الشروط منها ما يقوم الدليل الشرعي عليه ، كشرطنا العلم بالنهي . ولا إشكال فيه . ومنها ما يؤخذ باستنباط المعنى ، فيخرج على قاعدة أصولية . وهي أن النص إذا استنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص . هل يصح أو لا ؟ ويظهر لك هذا باعتبار بعض ما ذكرناه من الشروط .

وقوله { ولا تصروا الغنم } فيه مسائل . الأولى : الصحيح في ضبط هذه اللفظة : ضم التاء وفتح الصاد وتشديد الراء المهملة المضمومة على وزن " تزكوا " مأخوذ من صرى يصري . ومعنى اللفظة : يرجع إلى الجمع . تقول : صريت الماء في الحوض ، وصريته - بالتخفيف والتشديد إذا جمعته ، و " الغنم " منصوبة الميم على هذا . ومنهم من رواه " لا تصروا " بفتح التاء وضم الصاد - من صر يصر : إذا ربط . " والمصراة " هي التي تربط أخلافها ليجتمع اللبن و " الغنم " على هذا : منصوبة الميم أيضا وأما ما حكاه بعضهم - من ضم التاء وفتح الصاد وضم ميم الغنم على ما لم يسم فاعله - فهذا لا يصح مع اتصال ضمير الفاعل . وإنما يصح مع إفراد الفعل . ولا نعلم رواية حذف فيها هذا الضمير .

المسألة الثانية : لا خلاف أن التصرية حرام . لأجل الغش والخديعة التي فيها للمشتري . والنهي يدل عليه ، مع علم تحريم الخديعة قطعا من الشرع .

المسألة الثالثة : النهي ورد عن فعل المكلف ، وهو ما يصدر باختياره وتعمده فرتب عليه حكم مذكور في الحديث . فلو تحفلت الشاة بنفسها ، أو نسيها المالك بعد أن صراها ، لا لأجل الخديعة ، فهل يثبت ذلك الحكم ؟ فيه خلاف بين أصحاب الشافعي . فمن نظر إلى المعنى أثبته ; لأن العيب مثبت للخيار ، ولا يشترط فيه تدليس البائع . ومن نظر إلى أن الحكم المذكور خارج عن القياس خصه بمورده . وهو حالة العمد . فإن النهي إنما يتناول حالة العمد .

المسألة الرابعة : ذكر المصنف " لا تصروا الغنم " وفي الصحيح " الإبل والغنم " وهذا هو محل التصرية . والفقهاء تصرفوا ، وتكلموا فيما يثبت فيه هذا الحكم من الحيوان . ولم يختلف أصحاب الشافعي أنه لا يختص بالإبل والغنم [ ص: 500 ] المذكورين في الحديث . ثم اختلفوا بعد ذلك . فمنهم من عداه إلى النعم خاصة ومنهم من عداه إلى كل حيوان مأكول اللحم . وهذا نظر إلى المعنى . فإن المأكول اللحم يقصد لبنه فتفويت المقصود الذي ظنه المشتري بالخديعة موجب للخيار .

فلو حفل أتانا ، ففي ثبوت الخيار وجهان لهم ، من حيث إنه غير مقصود لشرب الآدمي ، إلا أنه مقصود لتربية الجحش . وإذا اعتبر المعنى . فلا ينبغي أن يصح هذا الوجه . لأن إثبات الخيار يعتمد فوات أمر مقصود . ولا يتخصص ذلك بأمر معين . أعني الشرب مثلا . وكذلك اختلفوا في الجارية من الآدميات لو حفلها . وإذا أثبت الخيار في الأتان ، فالظاهر : أنه لا يرد لأجل لبنها شيئا .

ومن هذا يتبين لك : أن الأتان لا يقاس على المنصوص عليه في الحديث ، أعني الإبل والغنم ; لأن شرط القياس : اتحاد الحكم . فينبغي أن يكون إثبات الخيار فيها من القياس على قاعدة أخرى . وفي رد شيء لأجل لبن الآدمية خلاف أيضا .

المسألة الخامسة : قوله عليه السلام " بعد أن يحلبها " مطلق في الحلبات ، لكن قد تقيد في رواية أخرى إثبات الخيار " بثلاثة أيام " واتفق أصحاب مالك على أنه إذا حلبها ثانية ، وأراد الرد : أن له ذلك . واختلفوا إذا حلبها الثالثة ، هل يكون رضي بمنع الرد . ورجحوا أن لا يمنع لوجهين :

أحدهما : الحديث .

والثاني : أن التصرية لا تتحقق إلا بثلاث حلبات . فإن الحلبة الثانية إذا نقصت من الأولى : جوز المشتري أن يكون ذلك لاختلاف المرعى ، أو لأمر غير التصرية . فإذا حلبها الثالثة تحقق التصرية . وإذا كانت لفظة " حلبها " مطلقة . فلا دلالة لها على الحلبة الثانية والثالثة . وإنما يأخذ ذلك من حديث آخر .

المسألة السادسة : قوله { وإن سخطها ردها } يقتضي إثبات الخيار بعيب التصرية . واختلف أصحاب الشافعي : هل يكون على الفور ، أو يمتد إلى ثلاثة أيام ؟ فقيل يمتد ، للحديث . وقيل : يكون على الفور ، طردا لقياس خيار الرد بالعيب . ويتأول الحديث . والصواب : اتباع النص لوجهين :

أحدهما : تقديم [ ص: 501 ] النص على القياس .

والثاني : أنه خولف القياس في أصل الحكم ، لأجل النص فيطرد ذلك ، ويتبع في جميع موارده .

المسألة السابعة : يقتضي الحديث رد شيء معها عندما يختار ردها وفي كلام بعض المالكية : ما يدل على خلافه ، من حيث إن الخراج بالضمان " ومعناه : أن الغلة لمن استوفاها بعقد أو شبهته ، تكون له بضمانه . فاللبن المحلوب إذا فات غلة . فلتكن للمشتري . ولا يرد لها بدلا . والصواب : الرد ، للحديث على ما قررناه .

المسألة الثامنة : الحديث يقتضي رد الصاع مع الشاة بصريحه . ويلزم منه عدم رد اللبن . والشافعية قالوا : إن كان اللبن باقيا فأراد رده على البائع ، فهل يلزمه قبوله ؟ وجهان :

أحدهما : نعم . لأنه أقرب إلى مستحقه .

والثاني : لا لأن طراوته ذهبت . فلا يلزمه قبوله . واتباع لفظ الحديث أولى في أن يتعين الرد فيما نص عليه . أما المالكية : فقد زادوا على هذا . وقالوا : لو رضي به البائع ، فهل يجوز ذلك أم لا قولان . ووجهوا المنع : بأنه بيع الطعام قبل قبضه ; لأنه وجب له الصاع بمقتضى الحديث . فباعه قبل قبضه باللبن . ووجهوا الجواز : بأنه يكون بناء على عادتهم في اتباع المعاني ، دون اعتبار الألفاظ .

المسألة التاسعة : الحديث يقتضي تعيين المردود في التمر . فمنهم من ذهب إلى ذلك . وهو الصواب ومنهم من عداه إلى سائر الأقوات . ومنهم من اعتبر في ذلك غالب قوت البلد . وقد ثبت { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صاعا من تمر ، لا سمراء } وذلك رد على من عداه إلى سائر الأقوات . وإن كانت السمراء غالب قوت البلد - أعني المدينة - فهو رد على قائله أيضا .

المسألة العاشرة : الحديث يدل على تعيين المقدار في الصاع مطلقا . وفي مذهب الشافعي وجهان : أحدهما : ذلك ، وأن الواجب الصاع ، قل اللبن أو كثر ، لظاهر الحديث .

والثاني : أنه يتقدر اللبن ، اتباعا لقياس الغرامات وهو ضعيف .

المسألة الحادية عشرة : قوله عليه السلام { فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها } قد يقال ههنا سؤال .

وهو أن . الحديث يقتضي إثبات الخيار بعد الحلب . والخيار ثابت قبل الحلب إذا علمت التصرية . [ ص: 502 ] وجوابه : أنه يقتضي إثبات الخيار في هذين الأمرين ، أعني الإمساك والرد مع الصاع . وهذا إنما يكون بعد الحلب ، لتوقف هذين المعنيين على الحلب ; لأن الصاع عوض عن اللبن . ومن ضرورة ذلك : الحلب .

المسألة الثانية عشرة : لم يقل أبو حنيفة بهذا الحديث . وروي عن مالك قول أيضا بعدم القول به . والذي أوجب ذلك : أنه قيل حديث مخالف لقياس الأصول المعلومة . وما كان كذلك لا يلزم العمل به . أما الأول - وهو أنه مخالف لقياس الأصول المعلومة - فمن وجوه :

أحدها : أن المعلوم من الأصول : أن ضمان المثليات بالمثل . وضمان المتقومات بالقيمة من النقدين . وههنا إن كان اللبن مثليا كان ينبغي ضمانه بمثله لبنا . وإن كان متقوما ضمن بمثله من النقدين . وقد وقع ههنا مضمونا بالتمر . فهو خارج عن الأصلين جميعا .

الثاني : أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف . وذلك مختلف ، فقدر الضمان مختلف لكنه قدر ههنا بمقدار واحد . وهو الصاع مطلقا . فخرج من القياس الكلي في اختلاف ضمان المتلفات باختلاف قدرها وصفتها .

الثالث : أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة ، وذلك مانع من الرد ، كما لو ذهبت بعض أعضاء المبيع ، ثم ظهر على عيب . فإنه يمنع الرد . وإن كان هذا اللبن حادثا بعد الشراء فقد حدث على ملك المشتري . فلا يضمنه . وإن كان مختلطا فما كان منه موجودا عند العقد من الرد . وما كان حادثا لم يجب ضمانه .

الرابع : إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط : مخالف للأصول . فإن الخيارات الثابتة بأصل الشرع من غير شرط : لا تتقدر بالثلاثة ، كخيار العيب ، وخيار الرؤية عند من يثبته ، وخيار المجلس عند من يقول به .

الخامس : يلزم من القول بظاهره : الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور . وهو ما إذا كانت قيمة الشاة صاعا من تمر . فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها .

[ ص: 503 ] السادس : أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور وهو ما إذا اشترى شاة بصاع . فإن استرد معها صاعا من تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن . فيكون قد باع صاعا وشاة بصاع وذلك خلاف قاعدة الربا عندكم . فإنكم تمنعون مثل ذلك .

السابع : إذا كان اللبن باقيا لم يكلف رده عندكم فإذا أمسكه فالحكم كما لو تلف فيرد الصاع . وفي ذلك ضمان بالأعيان مع بقائها . والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها ، كالمغصوب وسائر المضمونات .

الثامن : قال بعضهم : إنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط ; لأن نقصان اللبن لو كان عيبا لثبت به الرد من غير تصرية . ولا يثبت الرد في الشرع إلا بعيب أو شرط وأما المقام الثاني - وهو أن ما كان من أخبار الآحاد مخالفا لقياس الأصول المعلومة : لم يجب العمل به - فلأن الأصول المعلومة مقطوع بها من الشرع . وخبر الواحد مظنون . والمظنون لا يعارض المعلوم . أجاب القائلون بظاهر الحديث : بالطعن في المقامين جميعا . أعني أنه مخالف للأصول ، وأنه إذا خالف الأصول لم يجب العمل به . أما المقام الأول - وهو أنه مخالف للأصول - فقد فرق بعضهم بين مخالفة الأصول ، ومخالفة قياس الأصول . وخص الرد لخبر الواحد بالمخالقة للأصول ، لا بمخالفة قياس الأصول . وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول وفي هذا نظر . وسلك آخرون تجريح . جميع هذه الاعتراضات . والجواب عنها [ ص: 504 ] أما الاعتراض الأول : فلا نسلم أن جميع الأصول تقتضي الضمان بأحد الأمرين على ما ذكرتموه . فإن الحر يضمن بالإبل . وليست بمثل له ولا قيمة . والجنين يضمن بالغرة ، وليست بمثل له ولا قيمة . وأيضا فقد يضمن المثلي بالقيمة إذا تعذرت المماثلة . وههنا تعذرت . أما الأولى : فمن أتلف شاة لبونا كان عليه قيمتها مع اللبن . ولا يجعل بإزاء لبنها لبن آخر ، لتعذر المماثلة .

وأما الثاني : وهو أنه تعذرت المماثلة ههنا - ; فلأن ما يرده من اللبن عوضا عن اللبن التالف لا تتحقق مماثلته له في المقدار . ويجوز أن يكون أكثر من اللبن الموجود حالة العقد أو أقل . وأما الاعتراض الثاني : فقيل في جوابه : إن بعض الأصول لا يتقدر بما ذكرتموه ، كالموضحة ، فإن أرشها مقدر ، مع اختلافها بالكبر والصغر . والجنين مقدر أرشه . ولا يختلف بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات . والحر ديته مقدرة وإن اختلف بالصغر والكبر وسائر الصفات والحكمة فيه : أن ما يقع فيه التنازع والتشاجر يقصد قطع النزاع فيه بتقديره بشيء معين . وتقدم هذه المصلحة في مثل هذا المكان على تلك القاعدة .

وأما الاعتراض الثالث : فجوابه ، أن يقال : متى يمتنع الرد بالنقص : إذا كان النقص لاستعلام العيب ، أو إذا لم يكن ؟ الأول : ممنوع والثاني : مسلم . وهذا النقص لاستعلام العيب . فلا يمنع الرد .

وأما الاعتراض الرابع : فإنما يكون الشيء مخالفا لغيره إذا كان مماثلا له وخولف في حكمه . وههنا هذه الصورة انفردت عن غيرها ; لأن الغالب : أن هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الخلقة المجتمع بأصل الخلقة ، واللبن المجتمع بالتدليس فهي مدة يتوقف علم العيب عليها غالبا . بخلاف خيار الرؤية والعيب فإنه يحصل المقصود من غير هذه المدة فيهما . وخيار المجلس ليس لاستعلام عيب وأما الاعتراض الخامس : فقد قيل فيه : إن الخبر وارد على العادة . والعادة : أن لا تباع شاة بصاع . وفي هذا ضعف . وقيل : إن صاع التمر بدل عن اللبن لا عن الشاة . فلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض .

وأما الاعتراض السادس : فقد قيل في الجواب عنه : إن الربا إنما يعتبر في [ ص: 505 ] العقود لا في الفسوخ . بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة ، لم يجز أن يفترقا قبل القبض ولو تقايلا في هذا العقد . جاز أن يفترقا قبل القبض .

وأما الاعتراض السابع : فجوابه فيما قيل : إن اللبن الذي كان في الضرع حال العقد يتعذر رده ، لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد وأحدهما للبائع ، والآخر للمشتري . وتعذر الرد لا يمنع من الضمان ، مع بقاء العين ، كما لو غصب عبدا فأبق ، فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه ، لتعذر الرد .

وأما الاعتراض الثامن : فقيل فيه : إن الخيار يثبت بالتدليس ، كما لو باع رحا دائرة بماء قد جمعه لها ولم يعلم به . وأما المقام الثاني - وهو النزاع في تقديم قياس الأصول على خبر الواحد - فقيل فيه : إن خبر الواحد أصل بنفسه ، يجب اعتباره ; لأن الذي أوجب اعتبار الأصول : نص صاحب الشرع عليها . وهو موجود في خبر الواحد . فيجب اعتباره ، وأما تقديم القياس على الأصول ، باعتبار القطع وكون خبر الواحد مظنونا : فتناول الأصل لمحل خبر الواحد غير مقطوع به ، لجواز استثناء محل الخبر من ذلك الأصل . وعندي : أن التمسك بهذا الكلام أقوى من التمسك بالاعتذارات عن المقام الأول . ومن الناس من سلك طريقة أخرى في الاعتذار عن الحديث وهي ادعاء النسخ ، وأنه يجوز أن يكون ذلك من حيث كانت العقوبة بالمال جائزة . وهو ضعيف ، فإنه إثبات نسخ بالاحتمال والتقدير . وهو غير سائغ . ومنهم من قال : يحمل الحديث على ما إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب خمسة أرطال مثلا وشرط الخيار ، فالشرط باطل فاسد . فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صح العقد ، وإن لم يتفقا بطل وأما رد الصاع : فلأنه كان قيمة اللبن في ذلك الوقت . وأجيب عنه : بأن الحديث يقتضي تعليق الحكم بالتصرية ، وما ذكر يقتضي تعليقه بفساد الشرط ، سواء أحدث التصرية أم لا .

التالي السابق


الخدمات العلمية