إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
272 - الحديث الأول : عن عائشة رضي الله عنها قالت : { جاءتني بريرة : فقالت : كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية . فأعينيني . فقلت : إن أحب أهلك أن أعدها لهم ، وولاؤك لي فعلت . فذهبت بريرة إلى أهلها ، فقالت : لهم . فأبوا عليها . فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس . فقالت إني عرضت ذلك على أهلي ، فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء . فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : خذيها واشترطي لهم الولاء . فإنما الولاء لمن أعتق . ففعلت عائشة . ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه . ثم قال : أما بعد . فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ كل شرط [ ص: 518 ] ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط . قضاء الله أحق . وشرط الله أوثق . وإنما الولاء لمن أعتق . } .


قد أكثر الناس من الكلام على هذا الحديث ، وأفردوا التصنيف في الكلام عليه ، وما يتعلق بفوائده : وبلغوا بها عددا كثيرا . ونذكر من ذلك عيونا إن شاء الله تعالى .

والكلام عليه من وجوه :

أحدها " كاتبت " فاعلت من الكتابة . وهو العقد المشهور بين السيد وعبده . فإما أن يكون مأخوذا من كتابة الخط ، لما أنه يصحب هذا العقد الكتابة له ، فيما بين السيد وعبده ، وإما أن يكون مأخوذا من معنى الإلزام . كما في قوله تعالى { كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } كأن السيد ألزم نفسه عتق العبد عند الأداء . والعبد ألزم نفسه الأداء للمال الذي تكاتبا عليه .

الثاني : اختلفوا في بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب : المنع والجواز والفرق بين أن يشتري للعتق ، فيجوز ، أو للاستخدام فلا . فأما من أجاز بيعه : فاستدل بهذا الحديث . فإنه ثبت أن بريرة كانت مكاتبة . وأما من منع : فيحتاج إلى العذر عنه ، فمن العذر عنه ما قيل . إنه يجوز بيعه عند العجز عن الأداء ، أو الضعف عن الكسب فقد يحمل الحديث على ذلك . ومن الاعتذارات : أن تكون عائشة اشترت الكتابة ، لا الرقبة . وقد استدل على ذلك بقولها في بعض الروايات { فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابك } فإنه يشعر [ ص: 519 ] بأن المشترى : هو الكتابة لا الرقبة . ومن فرق بين شرائه للعتق وغيره : فلا إشكال عنده ; لأنه يقول : أنا أجيز بيعه للعتق . والحديث موافق لما أقول

الثالث : بيع العبد بشرط العتق اختلفوا فيه . وللشافعي قولان :

أحدهما : أنه باطل ، كما لو باعه بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه . وهو باطل .

والثاني : وهو الصحيح - أن العقد صحيح . لهذا الحديث . ومن منع من بيع العبد بشرط العتق ، فقد قيل : إنه يمنع كون عائشة مشترية للرقبة . ويحمل على قضاء الكتابة عن بريرة ، أو على شراء الكتابة خاصة .

والأول : ضعيف ، مخالف للفظ الوارد في بعض الروايات . وهو قوله عليه السلام " ابتاعي " وأما الثاني : فإنه محتاج فيه إلى أن يكون قد قيل بمنع البيع بشرط العتق ، مع جواز بيع الكتابة . ويكون قد ذهب إلى الجمع بين هذين ذاهب واحد معين . وهذا يستمد من مسألة إحداث القول الثالث .

الرابع : إذا قلنا بصحة البيع بشرط العتق ، فهل يصح الشرط ، أو يفسد ؟ فيه قولان للشافعي : أصحهما : أن الشرط يصح ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر إلا اشتراط الولاء . والعقد تضمن أمرين : اشتراط العتق ، واشتراط الولاء . ولم يقع الإنكار إلا للثاني . فيبقى الأول مقررا عليه . ويؤخذ من لفظ الحديث . فإن قوله " اشترطي لهم الولاء " من ضرورة اشتراط العتق . فيكون من لوازم اللفظ ، لا من مجرد التقرير . ومعنى صحة الشرط : أنه يلزم الوفاء به من جهة المشتري . فإن امتنع ، فهل يجبر عليه أم لا ؟ فيه اختلاف بين أصحاب الشافعي . وإذا قلنا : لا يجبر ، أثبتنا الخيار للبائع .

الخامس : اشتراط الولاء . للبائع ، هل يفسد العقد ؟ فيه خلاف . وظاهر الحديث : أنه لا يفسده لما قال فيه " واشترطي لهم الولاء " ولا يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عقد باطل . وإذا قلنا : إنه صحيح . فهل يصح الشرط ؟ فيه اختلاف في مذهب الشافعي . والقول ببطلانه موافق لألفاظ الحديث وسياقه ، وموافق للقياس أيضا من وجه . وهو أن القياس يقتضي : أن الأثر مختص بمن صدر منه السبب . والولاء من آثار العتق . فيختص بمن صدر منه العتق . وهو المعتق . وهذا التمسك والتوجيه في حصة البيع والشرط : يتعلق بالكلام على معنى قوله " واشترطي لهم الولاء " وسيأتي .

[ ص: 520 ] السادس : الكلام على الإشكال العظيم في هذا الحديث ، وهو أن يقال : كيف يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في البيع على شرط فاسد ؟ وكيف يأذن ، حتى يقع البيع على هذا الشرط فيدخل البائع عليه ، ثم يبطل اشتراطه ؟ . فاختلف الناس في الكلام على هذا الإشكال . فمنهم من صعب عليه ، فأنكر هذه اللفظة . أعني قوله " واشترطي لهم الولاء " وقد نقل ذلك عن يحيى بن أكثم . وبلغني عن الشافعي قريب منه . وأنه قال " اشتراط الولاء " رواه هشام بن عروة عن أبيه ، وانفرد به دون غيره من رواة هذا الحديث . وغيره من رواته : أثبت من هشام . والأكثرون على إثبات اللفظة ، للثقة براويها . واختلفوا في التأويل والتخريج . وذكر فيه وجوه :

أحدها : أن " لهم " بمعنى عليهم ، واستشهدوا لذلك بقوله تعالى { ولهم اللعنة } بمعنى " عليهم " { وإن أسأتم فلها } بمعنى عليها " وفي هذا ضعف . أما أولا : فلأن سياق الحديث ، وكثيرا من ألفاظه : ينفيه . وأما ثانيا : فلأن اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع ، بل تدل على مطلق الاختصاص . فقد يكون في اللفظ ما يدل على الاختصاص النافع ، وقد لا يكون .

وثانيهما ما فهمته من كلام بعض المتأخرين ، وتلخيصه : أن يكون هذا الاشتراط بمعنى ترك المخالفة لما شرطه البائعون ، وعدم إظهاره النزاع فيما دعوا إليه ، وقد يعبر عن التخلية والترك بصيغة تدل على الفعل . ألا ترى أنه قد أطلق لفظ الإذن من الله تعالى على التمكين من الفعل والتخلية بين العبد وبينه ، وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي الإباحة والتجويز ؟ وهذا موجود في كتاب الله تعالى على ما يذكره المفسرون ، كما في قوله تعالى : { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } .

وليس المراد بالإذن ههنا : إباحة الله تعالى للإضرار بالسحر . ولكنه لما خلى بينهم وبين ذلك الإضرار : أطلق عليه لفظة " الإذن " مجازا ، وهذا - وإن كان محتملا إلا أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة ظاهرة على المجاز من حيث اللفظ .

وثالثهما : أن لفظة " الاشتراط " و " الشرط " وما تصرف منها تدل على [ ص: 521 ] الإعلام والإظهار . ومنه : أشراط الساعة ، والشرط اللغوي والشرعي . ومنه قول أويس بن حجر - بفتح الحاء والجيم - فأشرط فيها نفسه أي أعلمها وأظهرها ، وإذا كان كذلك فيحمل " اشترطي " على معنى : أظهري حكم الولاء وبينيه وأعلمي : أنه لمن أعتق ، على عكس ما أورده السائل وفهمه من الحديث . ورابعها : ما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم . قد كان أخبرهم { أن الولاء لمن أعتق } ثم أقدموا على اشتراط ما يخالف هذا الحكم الذي علموه ، فورد هذا اللفظ على سبيل الزجر والتوبيخ والتنكيل ، لمخالفتهم الحكم الشرعي .

وغاية ما في الباب : إخراج لفظة الأمر عن ظاهرها ، وقد وردت خارجة عن ظاهرها في مواضع يمتنع إجراؤها على ظاهرها ، كقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم } { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } وعلى هذا الوجه والتقدير الذي ذكر : لا يبقى غرور . وخامسها : أن يكون إبطال هذا الشرط عقوبة ، لمخالفتهم حكم الشرع ، فإن إبطال الشرط يقتضي تغريم ما قوبل به الشرط من المالية ، المسامح بها لأجل الشرط ، ويكون هذا من باب العقوبة بالمال ، كحرمان القاتل الميراث . وسادسها : أن يكون ذلك خاصا بهذه القضية ، لا عاما في سائر الصور ، ويكون سبب التخصيص بإبطال هذا الشرط : المبالغة في زجرهم عن هذا الاشتراط المخالف للشرع ، كما أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصا بتلك الواقعة ، مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج ، وهذا الوجه ذكره بعض أصحاب الشافعي ، وجعله بعض المتأخرين منهم : الأصح في تأويل الحديث .

الوجه السابع من الكلام على الحديث : يدل على أن كلمة " إنما " للحصر ; لأنها لو لم تكن للحصر لما لزم من إثبات الولاء لمن أعتق نفيه عمن لم [ ص: 522 ] يعتق . لكن هذه الكلمة ذكرت في الحديث لبيان نفيه عمن لم يعتق ، فدل على أن مقتضاها الحصر

الوجه الثامن : لا خلاف في ثبوت الولاء للمعتق عن نفسه ، بالحديث المذكور . واختلفوا فيمن أعتق على أن لا ولاء له . وهو المسمى بالسائبة . ومذهب الشافعي : بطلان هذا الشرط ، وثبوت الولاء للمعتق ، والحديث يتمسك به في ذلك .

الوجه التاسع : قالوا : يدل على ثبوت الولاء في سائر وجوه العتق ، كالكتابة والتعليق بالصفة وغير ذلك .

الوجه العاشر : يقتضي حصر الولاء للمعتق ، ويستلزم حصر السببية في العتق . فيقتضي ذلك : أن لا ولاء بالحلف ، ولا بالموالاة ، ولا بإسلام الرجل على يد الرجل ، ولا بالتقاطه للقيط ، وكل هذه الصور فيها خلاف بين الفقهاء . ومذهب الشافعي : أن لا ولاء في شيء منها للحديث .

الحادي عشر : الحديث دليل على جواز الكتابة ، وجواز كتابة الأمة المزوجة .

الثاني عشر : فيه دليل على تنجيم الكتابة ، لقولها { كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية } وليس فيه تعرض للكتابة الحالة ، فيتكلم عليه .

الثالث عشر : قوله عليه السلام { ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ } يحتمل أن يريد بكتاب الله : حكم الله ، أو يراد بذلك : نفي كونها في كتاب الله ، بواسطة أو بغير واسطة ، فإن الشريعة كلها في كتاب الله : إما بغير واسطة ، كالمنصوصات في القرآن من الأحكام ، وإما بواسطة قوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه } و { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } وقوله صلى الله عليه وسلم " قضاء الله أحق " أي بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الشرع ، و " شرط الله أوثق " أي باتباع حدوده وفي هذا اللفظ دليل على جواز السجع الغير المتكلف .

التالي السابق


الخدمات العلمية