إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
282 - الحديث الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول - { من أدرك ماله بعينه عند رجل - أو إنسان - قد أفلس فهو أحق به من غيره } .


فيه مسائل . الأولى رجوع البائع إلى عين ماله عند تعذر الثمن بالفلس ، أو الموت . فيه ثلاثة مذاهب الأول : أنه يرجع إليه في الموت والفلس . وهذا مذهب الشافعي .

والثاني : أنه لا يرجع إليه ، لا في الموت ولا في الفلس وهو مذهب أبي حنيفة .

والثالث : يرجع إليه في الفلس دون الموت . ويكون في الموت أسوة الغرماء . وهو مذهب مالك .

وهذا الحديث دليل على الرجوع في الفلس ، ودلالته قوية جدا ، حتى قيل : إنه لا تأويل له . وقال الإصطخري من أصحاب الشافعي : لو قضى القاضي بخلافه نقض حكمه . [ ص: 531 ] ورأيت في تأويله وجهين ضعيفين :

أحدهما : أن يحمل على الغصب الوديعة ، لما فيه من اعتبار حقيقة المالية . وهو ضعيف جدا ; لأنه يبطل فائدة تعليل الحكم بالفلس .

الثاني : أن يحمل على ما قبل القبض . وقد استضعف بقوله صلى الله عليه وسلم " أدرك ماله ، أو وجد متاعه " فإن ذلك يقتضي إمكان العقد وذلك بعد خروج السلعة من يده .

المسألة الثانية : الذي يسبق إلى الفهم من الحديث : أن الرجل المدرك ههنا : هو البائع ، وأن الحكم يتناول البيع . لكن اللفظ أعم من أن يحمل على البائع فيمكن أن يدخل تحته ما إذا أقرض رجل مالا ، وأفلس المستقرض ، والمال باق ، فإن المقرض يرجع فيه . وقد علله الفقهاء بالقياس على المبيع ، بعد التفريع على أنه يملك بالقبض .

وقيل في القياس : مملوك ببدل تعذر تحصيله . فأشبه المبيع . وإدراجه تحت اللفظ ممكن إذا اعتبرناه من حيث الوضع . فلا حاجة إلى القياس فيه .

المسألة الثالثة : لا بد في الحديث من إضمار أمور يحمل عليها ، وإن لم تذكر لفظا . مثل : كون الثمن غير مقبوض . ومثل : كون السلعة موجودة عند المشتري دون غيره . ومثل : كون المال لا يفي بالديون ، احترازا عما إذا كان مساويا ، وقلنا : يحجر على المفلس في هذه الصورة .

المسألة الرابعة : إذا أجر دارا أو دابة . فأفلس المستأجر قبل تسليم الأجرة ومضي المدة . فللمؤجر الفسخ على الصحيح من مذهب الشافعي .

وإدراجه تحت لفظ الحديث متوقف على أن المنافع : هل ينطلق عليها اسم " المتاع " أو " المال " ؟ وانطلاق اسم " المال " عليها أقوى وقد علل منع الرجوع : بأن المنافع لا تتنزل منزلة الأعيان القائمة . إذ ليس لها وجود مستقر . فإذا ثبت انطلاق اسم " المال " أو " المتاع " عليها فقد اندرجت تحت اللفظ وإن نوزع في ذلك ، فالطريق أن يقال : إن اقتضى الحديث أن يكون أحق بالعين . ومن لوازم ذلك : الرجوع في المنافع . فيثبت بطريق اللازم ، لا بطريق الأصالة . وإنما قلنا : إنه يتوقف عن كون اسم " المنافع " ينطلق عليها اسم " المال " أو " المتاع " ; لأن الحكم في اللفظ معلق بذلك في الأحاديث [ ص: 532 ] ونقول أيضا : الرجوع إنما هو في المنافع . فإنها المعقود عليه ، والرجوع إنما يكون فيما يتناوله العقد . والعين لم يتناولها عقد الإجارة .

المسألة الخامسة : إذا التزم في ذمته نقل متاع من مكان إلى مكان . ثم أفلس ، والأجرة بيده قائمة : ثبت حق الفسخ والرجوع إلى الأجرة . واندراجه تحت الحديث ظاهر ، إن أخذنا باللفظ . ولم نخصصه بالبائع . فإن خص به فالحكم ثابت بالقياس ، لا بالحديث .

المسألة السادسة : قد يمكن أن يستدل بالحديث على أن الديون المؤجلة تحل بالحجر . ووجهه : أنه يندرج تحت كونه أدرك ماله . فيكون أحق به . ومن لوازم ذلك : أن يحل ، إذ لا مطالبة بالمؤجل قبل الحلول

المسألة السابعة : يمكن أن يستدل به على أن الغرماء إذا قدموا البائع بالثمن لم يسقط حقه من الرجوع . لاندراجه تحت اللفظ . والفقهاء عللوه بالمنة .

المسألة الثامنة : قيل : إن هذا الخيار في الرجوع يستبد به البائع . وقيل : لا بد من الحكم . والحديث يقتضي ثبوت الأحقية بالمال . وأما كيفية الأخذ : فهو غير متعرض له . وقد يمكن أن يستدل به على الاستبداد ، إلا أن فيه ما ذكرنا .

المسألة التاسعة : الحكم في الحديث معلق بالفلس ، ولا يتناول غيره . ومن أثبت من الفقهاء الرجوع بامتناع المشتري من التسليم ، مع اليسار ، أو هربه ، أو امتناع الوارث من التسليم بعد موته - فإنما يثبته بالقياس على الفلس ، ومن يقول بالمفهوم في مثل هذا : فله أن ينفي هذا الحكم بدلالة المفهوم من لفظ الحديث .

المسألة العاشرة : شرط رجوع البائع : بقاء العين في ملك المفلس ، فلو هلكت لم يرجع ، لقوله عليه الصلاة والسلام { فوجد متاعه ، أو أدرك ماله } فشرط في الأحقية : إدراك المال بعينه ، وبعد الهلاك : فات الشرط ، وهذا ظاهر في الهلاك الحسي . والفقهاء نزلوا التصرفات الشرعية منزلة الهلاك الحسي ، كالبيع والهبة ، والعتق ، والوقف ، ولم ينقضوا هذه التصرفات . بخلاف تصرفات المشتري في حق الشفيع بها . فإذا تبين أنها كالهالكة شرعا : دخلت تحت اللفظ . فإن البائع حينئذ لا يكون مدركا لماله . واختلفوا فيما إذا وجد متاعه عند المشتري ، بعد أن خرج عنه ، ثم رجع إليه [ ص: 533 ] بغير عوض . فقيل : يرجع فيه ; لأنه وجد ماله بعينه ، فيدخل تحت اللفظ . وقيل : لا يرجع ; لأن هذا الملك متلقى من غيره ; لأنه لو تخللت حالة لو صادفها الإفلاس والحجر ، لما رجع ، فيستصحب حكمها . وهذا تصرف في اللفظ بالتخصيص ، بسبب معنى مفهوم منه ، وهو الرجوع إلى العين ، لتعذر العوض من تلك الجهة ، كما يفهم منه ما قدمنا ذكره ، أو تخصيص بالمعنى ، وإن سلم باقتضاء اللفظ له .

المسألة الحادية عشرة : إذا باع عبدين - مثلا - فتلف أحدهما ، ووجد الثاني بعينه . رجع فيه عند الشافعي . والمذهب : أنه يرجع بحصته من الثمن ، ويضارب بحصة ثمن التلف . وقيل : يرجع في الباقي بكل الثمن . فأما رجوعه في الباقي فقد يندرج تحت قوله " فوجد متاعه ، أو ماله " فإن الباقي متاعه أو ماله ، وأما كيفية الرجوع : فلا تعلق للفظ به .

المسألة الثانية عشرة : إذا تعذر المبيع في صفته ، بحدوث عيب . فأثبت الشافعي الرجوع ، إن شاءه البائع بغير شيء يأخذه ، وإن شاء ضارب بالثمن . وهذا يمكن أن يدرج تحت اللفظ . فإنه وجده بعينه ، والتغير حادث في الصفة لا في العين .

المسألة الثالثة عشرة : إطلاق الحديث يقتضي : الرجوع في العين ، وإن كان قد قبض بعض الثمن . وللشافعي قول قدم : أنه لا يرجع في العين إذا قبض بعض الثمن . لحديث ورد فيه .

المسألة الرابعة عشرة : الحديث يقتضي الرجوع في متاعه ، ومفهومه : أنه لا يرجع في غير متاعه . فيتعلق بذلك الكلام في الزوائد المنفصلة فإنها تحدث ملك المشتري ، فليس بمتاع للبائع . فلا رجوع له فيها .

المسألة الخامسة عشرة : لا يثبت الرجوع إلا إذا تقدم سبب لزوم الثمن على المفلس . ويؤخذ ذلك من الحديث الذي في لفظه ترتيب الأحقية على المفلس بصيغة [ ص: 534 ] الشرط ، فإن المشروط مع الشرط ، أو عقيبه . ومن ضرورة ذلك : تقدم سبب اللزوم على الفلس .

التالي السابق


الخدمات العلمية